وفي مناقشتنا الآن للمبادئ القاديانية وأسسها سوف نسير على الخط الذي
ارتضاه ورسمه محمد أقبال واعتبره مجديا ً مثمرا ً إلى أقصى حدود . واعتقد
أن هذه المحاولة ستكون تجديدا ً في الفكر الإسلامي بصفة عامة وفي الرد على
القاديانية بصفة خاصة .
ومن الجدير بالذكر أن المستشرقين قد نظروا إلى أسس القادياني بنفس منظار
محمد أقبال . وإليكم ما أورده ( جولد تسيهر ) ـــ شيخ المستشرقين ـــ في
هذا الصدد :
" وقد أضاف ( أي القادياني ) إلى دعواه المزدوجة ـــ بأنه عيسى الموعود
وأنه المهدي المنتظر ـــ زعما ً ثالثا ً زاده من أجل إخوانه الهنود وهو أنه
( الأوتار ) ، أي أن الألوهية حلت في جسده . وهو لا يرمي فحسب في تحقيق
آمال الإسلام في فوزه الشامل على سائر الأقطار المعمورة في آخر الزمان فحسب
، وإنما يعبر عن رسالته العالمية التي يتوجه بها إلى الإنسانية جمعاء .
غير أن مهدية أحمد تخالف نظرية المهدي كما جائت في الروايات الإسلامي .
فهي تتسم بالطابع السلمي ، أما السنة الإسلامية تصور المهدي قائدا ً حربيا ً
يقاتل الكفار بالسيف وتلوث طريقه بقع الدماء ، ويطلق عليه الشيعة ـــ مع
ما له عندهم من ألقاب آخر ـــ لقب صاحب السيف .
غير أن النبي الجديد أمير من أمراء السلام ، إذ أنكر الجهاد وأسقطه من
الفرائض الإسلامية ، وحبب إلى أتباعه السلم والتسامح ونهاهم عن التعصب ،
وجد أنه يبعث في نفوسهم ميلا ً للعلم والثقافة .
وكان يستشهد في تعاليمه بشواهد من الهعد القديم والجديد ، وآيات من
القرآن والصحاح من الحديث ، وداب على أن يكون دائما ً على وفاق ظاهري مع ما
جاء به في القرآن . أما الأحاديث فكان كثير الشك فيها ، دائب النقد
لاختيار نصيبها من الصحة ، وترتب على ذلك أنه ابتعد في نقط كثيرة عن
المعالم الرسمية للإسلام السني بالقدر الذي تستند فيه هذه المعالم على
الحديث . واشتملت دعوته أيضا ً بالعناية بالتربية والتعليم ، ووجدت اللغة
العبرية ذاتها مكانا ً في برنامج المواد الذي حبذ دراستها " . (1)
ويقول البروفيسور جب في هذا الصدد : " أنجبت الهند طائفة جديدة مسلمة
يمكن بان نقول بأنه نجحت ، وهي الحركة الاحمدية التي ولدت على شكل إصلاح
ليبرالي يدعو الذين فقدوا إيمانهم بالإسلام القديم إلى التعلق بمبدأ متجدد .
وكان مؤسس هذه الحركة يدعى ( مرزا غلام أحمد ) وكان يعتبر نفسه مهدي
الإسلام ، ونبي المسيحين بالإضافة إلى كونه تقمصا ً عن كرشنا ( شخصية
أسطورية هندوكية ) . وبعد موته عام 1908 انفصل عن الحركة أكثر الأعضاء
ليبرالية ورفضوا تقليديا ً كل ما يفرقهم عن المسلمين الليبراليين العاديين
بما في ذلك النبي الأصلي ( يقصد الجماعة اللاهورية ) .
وبفضل نشاطهم التبشيري القوي لا في الهند فحسب وإنما في انجلترا وأمريكا
وأفريقيا الجنوبية والشرقية الغربية ، حاز هؤلاء الأحمديون سمعة طيبة في
نظر السنّيين على الرغم من المحافظين المتعصبين لا يزالون ينظرون إليهم
بحذر وريبة بسبب أصلهم المشكوك فيه بالإضافة إلى مبادئهم الليبرالية .
أما الأحمديون الأصلين أو القاديانيون فإنهم انصرفوا كذلك إلى العمل
التبشيري في انجلترا وأمريكا بالإضافة إلى الهند . ولكل فرع جامع في ضواحي
لندن يستضيفون فيه لا الهنود فحسب وإنما كذلك العرب والإيرانيين والأفغان
وغيرهم من المسلمين وحتى الوهابين . إلا أن الأحمدية الإصلية
( القاديانية ) بقيت في الهند طائفة منفصلة تمام الإستقلال ، لها جوامعها
الخاصة ومدارسها ومحاكمها ولها سلطتها المذهبية الخاصة أي خلافة المؤسس .
ومن وقت لآخر نشبت الخلافات بين الاحمديين والمسلمين . وقد قتل عدد من
المبشرين الأحمديين في أفغانستان . إلا ان المذهب الأحمدي على وجه الإجمال
ليس إلا عنصرا ً ذا أهمية ضئيلة في الإسلام الهندي كما أن نفوذه يعتبر
محدودا ً جدا ً . (2)
وفي دراستنا للقاديانية ينبغي لنا أن نناقش الأمور الآتية :
1- أثر نظريتي وحدة الوجود والتقمس في تكوين القادياني العقلي والفكري ومصادرهما وآثارهما في الفرق الإسلامية الأولى .
2- حقيقة نزول عيسى من السماء وقيمته واهميته في الشريعة الإسلامية .
3- نظرية ظهور المهدي في الإسلام أساسها وحقيقتها .
4- حقيقة النبوة والأنبياء في الإسلام
5- معنى التجديد والمجددين في الإسلام
_____________
(1) العقيدة والشريعة في الإسلام ص 292 .
(2) الإتجاهات الحديثة في الإسلام ص 81 .
وحدة الوجود والتقمص
لقد ذكرنا في كتابنا عن ( الهند القديمة : حضاراتها ودياناتها ) أن
ظهرية وحدة الوجود قد ظهرت في الهند خلال عام 600 ق.م وسجلها الكتاب
الهندوكي المشهور الذي ألّف في هذه الأونة وهو (
اليوبانيشاد ) . تقول نظرية وحدة الوجود الهندوكية : أن الإنسان والحيوانات
والكائنات كلها أجزاء أو شظايا لبراهما ( رب العالمين ) ، ذلك الذي خلقهم
جميعا ً . وبهذا يكون براهما والكائنات كلاهما وجود واحد وشئ واحد ، ولن
يتصور وجود انسان والكائنات خارج وجود براهما . ثم أن الله سبحانه يكون
واحدا ً إذا ً تصورنا وجوده منفردا ً ، ويكون مركبا ً من أجزاء إذا أضفنا
إليه الإنسان والمخلوقات والكائنات .
وهذه النظرية هي التي أخذت طريقها فيما بعد إلى اليونان ، ثم تجلّت في
مدرسة الأفلاطونية الحديثة التي أنشئت في الإسكندرية في القرن الثالث
الميلادي . ومن هذه المدارس أخذت طريقها إلى التصوف الإسلامي منذ القرن
الثالث الهجري تقريبا ً . وكان أروع من مثّل هذه النظرية في التصوف
الإسلامي هو منصور الحلاج ذلك الذي أعدمه العلماء في بغداد بناء ً على هذه
النظرية الملحدة في نظرهم .
وكذلك أوردنا في كتابنا المذكور أن نظرية التقمص أو التجسد ( وهو يسمى
بالأوتار في اللغات الهندية ) قد ظهرت في الهند خلال عام 800 ق.م لأول مرة
، ثم نالت الشهرة منذ عام 400 ق.م وقد ظهرت هذه النظرية عند الهنود مقابل
نظرية النبوة والأنبياء عند الساميين في الشرق الاوسط . وكان قصدهم
بالأوتار أن رب العالمين يتجسد في انسان ويتجلى فيه لهداية البشرية . وبهذا
كانت شخصياتهم الأسطورية مثل ، كرشنا وراما وبوذا آلهة ، لأنه الله قد
تجسد فيهم . ولما انتشرت البوذية في أنحاء العالم واتخذت طريقها إلى
الإمبراطورية اليونانية ثم الرومانية وتوغلت في نفوسهم ، أسبغ الرومانيون
هذه النظرية على عيسى عليه السلام وذلك بعد أن دانوا بالمسيحية . ومن هنا
انتقلت عقيدة التجسد إلى المسيحية كما أوردنا التفاصيل والأدلة في كتابنا
المذكور .
وإليكم ما وارده رجال الدين المسيحيين المعاصرين فيما يتعلق بنشوء نظرية التجسد عند المسحيين وتطورها :
يقول الأب فرنسيس فريبه : أما القديس ايريناوس فهو أول من استعمل لفظ (
تجسد ) .وقد تناوله بعده الآباء المدافعون وجرت على أقلامهم في كثرة حتى
استقرت أخيرا ً العبارة في منتصف الجيل الثاني .
ولا فرق عند إيريناوس وبين القولين : الكلمة صار جسدا ً أو صار انسانا ً . فكلاهما يعبر عن المعنى الواحد .
وقال المؤلف أيضا ً : فلئن رجّح الآباء هذا اللفظ على غيره من الألفاظ
في كتاباتهم فلأنه يدل دلالة واضحة على عظمة محبة الله للإنسان . لقد اتخذ
الله جسد الإنسان ليخلص به الإنسان .
ثم إنه يعبر تعبيرا ً قويا ً عن حقيقة جسد المسيح . وأخيرا ً لأن الجسد كان مصدر الخطيئة فوجب ان يكون مصدر الخلاص أيضا ً .
وقد يؤخذ لفظ التجسد من وجهتين :
أولا ً : بالمعنى الفاعلي : أي الفعل الذي رفع الله به طبيعة بشرية
معينة قد تكونت في أحشاء العذراء مريم البتول وجعلها تقوم في ( الأقنوم ) (
أي الشخص ) الثاني من الثالوث الأقدس .
ثانيا ً : بالمعنى الإنفعالي : أي الإتحاد الفريد والعجيب الذي تم بين
الطبيعتين الإلهية والإنسانية في أقنوم واحد وهو أقنوم الكلمة ابن الله .
فالكلمة الإلهي ـــ دون أن يفقد شخصيته الإلهية ـــ اتخذت طبيعة انسانية
كاملة . (1)
ومما يؤسف له أن هذه النظرية أخذت طريقها فيما بعد إلى الإسلام عن طريق
بعض الفرق الإسلامية : يقول الإمام بن حزم أثناء معالجته نظرية التجسد بين
المسلمين :
" واعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام
فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية . فإن من الصوفية من يقول : أن من عرف الله
تعالى سقطت عنه الشرائع وزاد بعضهم واتصل بالله تعالى . وبلغنا أن بنيسابور
اليوم في عصرنا ( أي في القرن الخامس الهجري إذ توفى ابن حزم في عام 456هـ
) رجل يكنى أبا سعيد أبا الخير . هكذا كان من الصوفية مرة يلبس الصوف ومرة
يلبس الحرير المحرم على الرجال مرة ويصلي في اليوم ألف ركعة ومرة لا يصلي :
لا فريضة ولا نافلة . وهذا كفر محض وتعوّذ بالله من الضلال " . (2)
ثم يفيض البحث في هذا الموضوع قائلا ً " والقسم الثاني من الفرق الغالية
الذين يقولون بالألوهية لغير الله عز وجل . فأولهم قوم من أصحاب عبد الله
بن سبأ الحميري ـــ أتوا إلى علي بن أبي طالب ـــ فقالوا ـــ مشافهة ـــ :
أنت هو . فقال لهم : ومن هو ؟ فقالوا : أنت الله . فاستعظم الأمر وأمر
بنار فأججت وأحرقهم بالنار . فجعلوا يقولون وهم يرمون في النار : الآن صح
عندنا أنه الله . لأنه لا يعذب بالنار إلا الله . وفي ذلك يقول رضي الله
عنه :
لما رأيت الأمر أمرا ً منكرا ً أججت نارا ً ودعوت قنبرا
يريد ( قنبرا ) مولاه وهو الذي تول طرحهم في النار . نعوذ بالله من أن نفتتن . بمخلوق أو يفتتن بنا مخلوق فيما جل أو دق .
_____________
(1) التجسد ترجمة الأب لويس أبادير ص 23 ـــ 25 .
(2) الفصل في الملل والنحل 4/29 .
فإن محنة أبي الحسن رضي الله عنه من بين أصحابه رضي الله عنه كمحنة عيسى
عليه السلام بين أصحابه من الرسل عليهم السلام . وهذه الفرقة باقية إلى
اليوم فاشية عظيمة العدد يسمون ( العليانية ).
وقال طائفة من الشيعة يعرفون بالمحمدية ، أن محمدا ً عليه السلام هو
الله ـــ تعالى الله عن كفرهم ـــ ومن هؤلاء : كان البهنكي والفياض بن علي .
وله في هذا المعنى كتاب سماه ( القسطاس ) ، وأبوه الكاتب المشهور الذي كتب
لإسحاق بن كنداج أيام ولايته ، ثم لأمير المؤمنين المعتضد . وفيه يقول
( البحتري ) القصدية المشهورة التي أولها :
شط من ساكن الغرير مرارة وطوته البلاد والله حاره
والفياض هذا ـــ لعنه الله ـــ قتله القاسم بن عبد الله بن سليمان بن
وهب لكونه من جملة من سعى به أيام المعتضد ، والقصة مشهورة .
وفرقة قالت بألوهية آدم عليه السلام والنبيين بعده نبيا ً نبيا ً إلى
محمد عليه السلام . ثم بألوهية الحسن ثم الحسين ثم محمد بن جعفر بن محمد
ووقفوا ها هنا . وأعلنت الخطابية بذلك نهارا ً بالكوفة في ولاي عيسى بن
موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، فخرجوا صدر النهار في جموع
عظيمة في ( أزرداردية ) محرمين ينادون بأعلى أصواتهم : لبيك جعفر . قال بن
عياش وغيره : كأني أنظر إليهم يومئذ . فخرج إليه عيسى بنموسى وقاتلوه
فقتلهم واصطلمهم .
ثم زادت فرقة على ما ذكرنا فقالت بالألوهية لمحمد بن اسماعيل ابن جعفر
بن محمد وهم القرامطة . وفيهم من قال بألوهية أبي سعيد الحسن بن بهرام
الجبائع وابناؤه من بعده . ومنهم من قال بألوهية أبي القاسم النجار القائم
باليمن في بلاد همدان المسمى بالمنصور . وقالت طائفة منهم بألوهية عبيد بن
الله ، ثم الولاة من ولده إلى يومنا هذا .
وقالت طائفة بألوهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب ـــ مولى بني أسد ـــ
بالكوفة وكثر عددهم بها وتجاوزا الألوف . وقالوا : هو إله ، وجعفر بن محمد
إله إلا أن أبا الخطاب أكبر منه . وكانوا يقولون : جميع أولاد الحسن أبناء
الله وأحباؤه . وكانوا يقولون : أنهم لا يموتون ولكنهم يرفعون إلى السماء .
وأشبه على الناس بهذا الشيخ الذي ترون .
ثم قالت طائفة منهم بألوهية معمر بائع الحنطة بالكوفة وعبدوه . وكان من أصحاب أبي الخطاب لعنهم الله أجمعين .
وقالت طائفة بألوهية الحسن بن منصور حلاج القطن المصلوب ببغداد بسعي الوزير بن حامد بن العباس ـــ رحمه الله ـــ أيام المقتدر .
وقالت طائفة بألوهية محمد بن علي السمعاني الكاتب المقتول ببغداد أيام
الراضي. وكان أمر أصحابه أن يقسح الأرفع قدرا ً منهم به ليولج فيه النور .
وكل هذه الفرق ترى الإشتراك في النساء . وقالت طائفة منهم بألوهية ( شباش
المقيم ) في وقتنا هذا حيا ً بالبصرة .
وقالت طائفة منهم بألوهية أبي مسلم السراج ، ثم قالت طائفة منهم بألوهية
المقنع الأعور القصار القائم بثأر أبي مسلم واسم هذا القصار هاشم . وقتل
لعنه الله أيام المنصور وأعلنوا بذلك . فخرج المنصور فقتلهم وأفناهم فالي
لعنه الله .
وقالت الرنودية بألوهية أبي جعفر المنصور . وقالت طائفة منهم بألوهية عبد الله بن الحزب الكندي وعبدوه .
وطائفة ألى اليوم تعرف بالحزبية . ومن السبابية القائلين بألوهية علي .
وطائفة تدعى النصرية . وقد غلبوا في وقتنا هذا على جند الأردن بالشام وعلى
مدينة طبرية خاصة " .
وقالت النصرية ـــ التي آمنت بألوهية على بن أبي طالب ـــ : " ان عبد
الرحمن بن ملجم المرادي ـــ قاتل علي رضي الله عنه ـــ أفضل أهل الأرض
وأكرمهم في الآخرة ، لأنه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد
وكدره فأعجبوا بهذا الجنون " . (1)
ويقول بن خلدون في فرقة من الشيعة تسمى الكيسانية : " ومنهم ( أي من
الكيسانية ) طوائف يسمون الغلاة. تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول
بألوهية هؤلاء الأئمة : أما على أنهم بشر اتصفوا بصفات الألوهية ، أو أن
الإله حل في ذاته البشرية . وهو قول بالحلول يوفق مذهب النصارى في عيسى
عليه السلام . ولقد حرق علي رضي الله عنه بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم
وسخط محمد بن الحنفية المختار بن أبي عبيد لما بلغه مثل ذلك عنه فصرح
بلعنته والبراءة منه . وكذلك فعل جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه مثل هذا
عنه " . (2)
ولكن الطائفة الإسماعيلية من الشيعة التي تتمثل حاليا ً في جماعتي (
آغاخان ) والبهرا للشيخ برهان الدين بالهند أكثر الطوائف الإسلامية إيمانا ً
بالتجسد وتطبيقها في عقائدها وسلوكها ومنهج دعوتها . وإليكم ما أورده
المستشرق الإنجليزي الشهير ( البروفيسور سيرتوماس أرنولد ) ـــ أستاذ
الفيلسوف محمد أقبال ـــ : " وقد مرنوا على أن يستحوذوا على عقول الناس
جميعا ً ، وأن يجذبوا جميع الطبقات إلى رئيس الدعوة الإسماعيلية وأن
يستخدموا تعاليهم عن طريق التفاهم مع كل فرد بلغته الخاصة وعلى مقدار عقله .
وقد استطاع هؤلاء الدعاة أن يأسروا العامة بما كانوا يقومون به من الأعمال
الخارقة للمألوف والتي كانت في اعينهم كمعجزات والتي كانت تثير في نفوسهم
حب الإستطلاع .
_____________
(1) الفصل في الملل والنحل 4/27 ـــ 29 .
(2) مقدمة بن خلدون ص 108 ( الطبعة الخيرية )
وكانوا يتظاهرون للأتقياء بالتقوى والتحمس الديني ، ويظهرون للزهاد المثل
الأعلى للفضيلة والحماس الديني، ويجلون للوصفيين ما غمض عليهم من التعاليم
المعروفة ، ويستخدمون مع من يريدون ادخاله في مذهبهم مراتب مختلفة تتناسب
مع عقولهم .
ومن ثم أخذ هؤلاء وأولئك يوحون إلى المتشوقين بظهور منقذ يصلح الأديان
الكثيرة السائدة في ذلك الحين ، فأعلنوا للمسلمين قرب ظهور المهدي المنتظر
ولليهود ظهور المسيح ، وللنصارى المعزي . بيد أنهم لقنوهم أن ما يطمح إليه
كل فرد لا يمكن أن يتحقق إلى برجعة على المنقذ الأكبر . وكان على الداعي
الإسماعيلي أن يظهر بمظهر المتحمس لجميع العقائد الشيعية ويثير قسوة السنين
لعلي وأولاده ، ويجاهر بالحط من شأن الخلفاء السنيين . فإذا ما مهد السبيل
على هذا النحو ، وجب عليه أن ينتقل على وفق ما تتطلبه المذاهب الشيعية إلى
مبادئ الطائفة الإسماعيلية العميقة في التأويل .
وإذا ما خاطب اليهودي أظهر احتقاره للنصارى والمسلمين ، ووافق المدعو في
تطلعه إلى قرب المسيح المنتظر . ولكنه يتدرج معه في الحديث حتى يعتقد أن
هذا المسيح لا يمكن أن يكون سوى علي بن أبي طالب وهو المهدي الأكبر عند
طائفة الإسماعيلية .
وإذا حاول جذب المسيحي وجب ان ينحو بما للأئمة على مكابرة وجهل المسلمين
، وأن يعلن احترامه لما جاء به الدين من عقائد . ولكنه يشير في شئ من
الحذر إلى أن هذه العقائد عبارة عن رموز ، وأنها ذات معانٍ عميقة لا يجد
المرء وسيلة للوصول إليها إلا عن طريق المذهب الإسماعيلي . كما يجب عليه
أيضا ً أن يشير في حذر وحرص إلى أن المسيحين قد أساءوا نوعا ً تأويل نظرية
المسيح المنتظر: ( أي : الفرقليط Paraclote ) ، وأن هذا المسيح المنتظر لا
يوجد إلى في شخص علي بن أبي طالب.
وعلى هذا النحو حاول دعاة الإسماعيلية الذين اتخذوا طريقهم إلى بلاد
الهند أن يحملوا الهندوكيين على قبول عقائدهم عن طريق اظهار علي بن أبي
طالب بمظهر ( أوتار وشنو العاشر المنتظر ) ( أن وشنو سيد الآلهة
عند الهندوس ذلك الذي يتجسد في الإنسان ) ، الذي يجب أن يأتي من ناحية
الغرب . أي من الموت Alamut وكذلك كتبوا عن ( مهدي برانا ) ( ان برانا
كتاب مقدس للهندوس يتضمن الأساطير ) ونظموا الأشعار في تقليد ( ألوا ما
كارين ) أو ( الساكتس ) ذوي الأيدي اليسرى . وبهذا تهيأت عقولهم لقبول مذهب
الإسماعيلية الباطني أو التأويلي " . (1)
ولم تقتصر جهود الشيعة على اتخاذ نظرية الأوتار الهندوكية ، بل كذلك
آمنت بنظرية التناسخ الهندوكية طبقتها على أئمتها ، وهي عبارة عن انتقال
الروح بعد مفارقة جسدها إلى جسد آخر . يقول بن خلدون في هذا الصدد : "
ومنهم ( أي من الشيعة ) من يقول : أن كمال الامام لا يكون لغيره . فإذا مات
انتقلت روحه إلى امام آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتناسخ . ومن
هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمة ، لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من
لذلك عندهم . وهؤلاء هم الواقفية " . (2)
_____________
(1) انظر كتابه : الدعوة إلى الإسلام ترجمة الدكتور حسن ابراهيم حسن ص 242 ـــ 243 .
(2) مقدمة ابن خلدون ص 108 .
الأرض الخلفية لمزاعم القادياني
من المعروف أن القادياني كان صوفيا ً من مذهب وحدة الوجود من الدرجة
الأولى ، ثم درس الديانات المشهورة : اليهودية والهندوكية والبوذية والملل
والنحل في الإسلام ، الأمر الذي مكنه من مناظرة المبشرين والقساوسة
الهندوس في مستهل حياته كما قلنا . فإذا ادعى القادياني فيما بعد أنه هو
المسيح الموعود وفق نظرية الأوتار ، فلم يكن هذا الأمر بدعا ً بالنسبة إليه
، لأنه قد وجد هذه النظرية قد تسربت إلى الإسلام منذ القرن الأول الهجري ،
ثم تغلغلت في نفوس الشيعة وتجلت في مظاهر عديدة في حياتهم وعقائدهم
ودعاوتهم . وكان القادياني على علم تام أنه إذا ادعى بأنه هو المسيح
الموعود ، لا ينافي ذلك عقيدة الإسلام لأنه يلجأ إلى التأويل ، ويقول بأنه
هو المسيح الحقيقي ، بل يؤكد أن المسيح الحقيقي تجلى فيه بصفاته ومهامه وفق
نظرية التقمص . وكان يعلم جيدا ً من الناحسة الأخرى أن هذه الدعوى مهما
كانت خطيرة ، فهي تقل بخطورتها بمراحل عن دعوى الشيعة بأن الله قد تجسد في
محمد عليه السلام ، ثم في علي بن أبي طالب ، ثم في أئمتهم كما سبق كلام بن
حزم في هذا المجال . وبسبب طول عكوفه على دراسة الفرق الإسلامية القديمة قد
عرف جيدا ً نظرية المهدية التي ظهرت في الإسلام واتخذت أشكالا ً وألوانا ً
طوال التاريخ الإسلامي .
ومن ناحية أخرى فإن نظرية الأوتار فهي نقطة الإتصال بينه وبين كثير من
الصوفية الهندوسي الذين أشار إليهم محمد أقبال ، أولئك الذين يشابهون
القادياني في التجارب الصوفية ونتائجها ودما ترتب على ذلك من المظاهر
والمزاعم .
نظرية ظهور المهدي في الإسلام
ظهرت عقيدة ظهور المهدي بين الشيعة لأول مرة. كانت الشيعة تقصد بذلك أن
إماما ً منتظرا ً سيأتي فيملأ الأرض عدلا ً بعد ان امتلأت ظلما ً وجورا ً.
وهذه العقيدة تسمى عند الشيعة بالرجعية أي رجوع الإمام . كان عبد الله بن
سبأ اليهودي المذكور اول من نطق بهذا الكلام في الإسلام . لأنه قال برجوع
محمد عليه السلام بعد وفاته . ثم ردد كلام الرجوع شيعي آخر وهو جعفر الجعفي
في مستهل المائة الثانية الهجرية . لقد زعم هذا الرجل : أن علي بن أبي
طالب سيرجع . واستدل بذلك بقوله تعالى " وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ
عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ " ،
لأن الله يقصد هنا بالدابة علي بن أبي طالب . ثم زعمت الفرقة الإمامية من
الشيعة في القرن الثالث الهجري : أن أئمتهم كلهم سيرجعون .
ثم اشتهرت في هذا المجال الفرقة الشيعية التي سميت بالكيسانية . يقول
البغدادي في وصف هذه الفرقة : " والكيسانية فرق كثيرة يرجع محصلها إلى
فرقتين : احداهما تزعم أن محمد بن الحنفية حي لم يمت ، وهم على انتظاره ،
ويزعمون أنه المهدي المنتظر . والفرقة الثانية منهم يفرقون بإمامته في وقته
، وبموته ، وينقلون الإمامة بعده إلى غيره ، ويختلفون بعد ذلك في المنقول
إليه " . (1)
_____________
(1) الفرق بين الفرق ص 23 .
وتنتظر الجاردودية محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب ( المقتول سنة 145هــ ) ولا تصدق بقتله ولا بموته ، وتزعم أنه هو
المهدي المنتظر الذي يخرج فيملك الأرض .
يقول البغدادي : وقول هؤلاء فيه كقول المحمدية في الإمامية في انتظارها محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي . (1)
ومن الجدير بالذكر أن الشيعة آمنت بنظرية ظهور المهدي إيمانا ً راسخا ً ،
ثم وضعت أحاديث كثيرة في تأييد هذه النظرية ونسبتها إلى الرسول عليه
السلام . وأن بعض تلك الأحاديث قد أخذت طريقها إلى كتب أهل السنة أيضا ً .
ومن المعلوم الإماميْن البخاري ومسلم لم يوردا شيئا ً من هذه الأحاديث ،
وإنما أوردها كل من أبي داوود والترمذي وابن ماجة في سننهم مثل حديث يرفع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال : " لو لم يبق من الدنيا إلا
يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا ً مني أو من أهل بيتي يواطي
اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي " .
وفي حديث آخر : لو لم يبق من الدهر إلى يوم ليبعث الله رجلا ً من أهل بيتي يملؤها جورا ً ... الخ .
ثم تتلقى الصوفية هذه العقيدة بترحاب حار بسبب صلتهم بالشيعة ، وصاغوها
صياغة صوفية وسموها ( القطب ) . لقد كوّن هؤلاء مملكة من الأرواح على نمط
مملكة الأشباح وعلى رأس هذه المملكة وضعوا ( القطب ) وهو نظير الإمام
المهدي في التشريع . القطب هو الذي يدبر الأمر في كل عصر وهو عماد السماء
ويلي القطب النبجباء . قال بن عربي في ( الفتوحات الملكية ) : وهم اثنا عشر
نقيبا ً ، في كل زمان ، لا يزيدون ولا ينقصون على حسب عدد بروج الفلك
الاثنى عشر ، وذلك بسبب ما أودع الله في مقامه من الأسرار والتأثيرات . وقد
جعل الله على أيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة وأعطاهم قدرات
استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها ، وأن ابليس ينكشف
أمامهم ، فهم يعرفون عنه مالا يعرفه هو عن نفسه ، ويعملون جميع أسرار الناس
، والأمور الغيبية التي تتعلق بكل انسان .
لقد انتقد بن خلدون جميع الأحاديث الواردة عن المهدي في كتب السنة ،
وكشف وهنها من ناحية الجرح والتعديل ، وقرر أخيرا ً أنها موضوعة تماما ً ،
ولا يصح منها حديث . (2)
وقد علم القادياني الأهمية التي نالتها أحاديث المهدي في قلوب المسلمين
ووجدانهم وسلوكهم ، ثم علم جميع المهديين في الإسلام وآخرهم المهدي الهندي
المذكور سابقا ً . ومن هنا لم يجد غرابة ـــ ولا سيما وهو من عشاق وحدة
الوجود من اتباع بن عربي صاحب نظرية ( القطب ) ـــ في تنصيب نفسه قطبا ً
ومهديا ً ينتظره المسلمون منذ مئات السنين .
_____________
(1) الفرق بين الفرق ص 31 .
(2) انظر للتفصيل ( ضحى الإسلام ) للدكتور أحمد أمين 3/237 ـــ 246 .
لقد تمثلت عقيدة التقمص الإلهي في أبدع مظاهرها في شخصية الحلاج الذي كان من كبار رجال التصوف .
ولد الحسين بن المنصور الحلاج في عام 244هــ في البيضاء إحدى بلاد فارس ،
ونشأ بواسط والعراق ، وصحب أبا القاسم الجنيد . يختلف الناس في أمره ،
منهم من ينصره ، ومنهم من يكفره . وفي عام 309هــ أمر الخليفة المقتدر
العباسي بضربه ألف سوط ، فإن مات منها ، وإلا ضرب عنقه . واخرجوه عند باب
الطاق ، واجتمع خلق كثير من العامة ، وضربه الجلاد ألف سوط ، ثم قطع أطرافه
الأربعة ، ثم حز رأسه ، واحرق جثته . فلما صارت رمادا ً ألقاه في دجلة
ونصب الرأس ببغداد على الجسر . (1)
لقد ذكره البغدادي بين الفرق الحلولية وكلها من الشيعة مثل : السبئية
والجناحية والخطابية والنميرية والمنعية والرزامية والحلمانية ، وآخرها
الحلاجية . (2)
قال فيه البغدادي : وكان في بدء أمره مشغولا ً بكلام الصوفية. وكانت
عباراته حينئذ من الجنس الذي تسميه الصوفية ( الشطح ) وهو الذي يحتمل
معنيين : أحدهما ـــ حسن محمود ، والآخر قبيح مذموم . وكان يدعي أنواع
العلوم على الخصوص والعموم ، وافتتن به قوم من أهل بغداد وقوم من أهل
طالقان خراسان .
وقد اختلف فيه المتكلمون والفقهاء والصوفية . فأما المتكلمون فأكثرهم
على تكفيره . وعلى أنه كان على مذهب الحلولية ، وقبله قوم من متكلمي
السالمية بالبصرة ، ونسبوه غلى حقائق معاني الصوفية .
وكان القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري ـــ رحمه الله ـــ نسبه إلى معاطاه الحيل والمخاريق .
واختلف الفقهاء أيضا ً في شأن الحلاج . فتوقف فيه أبو العباس ابن سريح لما استفتى في دمه وأفتى أبو بكر محمد داود بجواز قتله .
واختلف فيه مشايخ الصوفية . فبرئ منهم عمرو بن عثمان المكي وأبو يعقوب
الأقطع وجماعة منهم . وقال عمرو بن عثمان : كنت أماشيه يوما ً فقرأت شيئا ً
من القرآن . فقال : يمكنني أن أقول مثل هذا . وروى أن الحلاج مرّ يوما ً
على الجنيد فقال له : أنا الحق . فقال له الجنيد : أنت بالحق أية خشبة تفسد
. فتحقق فيه ما قال الجنيد ، لأنه صلب بعد ذلك .
وقبله جماعة من الصوفية ، منهم : أبو العباس عطاء ببغداد ، أبو عبد الله
بن خفيف بفارس وأبو القاسم النصر آبادي بنيسابور وفارس الدينوري باحيته .
_____________
(1) انظر ترجمته في ابن خلكان ، والطبقات الكبرى للشعراني 1/126 .
(2) الفرق بين الفرق ص 255 .
والذين نسبوه إلى الكفر وإلى دين الحلولية حكوا عنه أنه قال : من هذب
نفسه في الطاعة وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى مقام المقربين. ثم لا
يزال يصفوا ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفوا عن البشرية . فإذا لم يبق
فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي في عيسى بن مريم . ولم يرد حينئذ
شيئا ً إلا كان كما أراد ، وكان جميع فعله فعل الله تعالي .
وزعموا : أن الحلاج ادعى لنفسه هذه الرتبة .
وذكر أنهم ظفروا بكتب له إلى أتباعه عنوانها : من ( الهو ) الذي هو رب
الأرباب المنصور في كل صورة إلى عبده فلان . فظفروا بكتب أتباعه إليه وفيها
: ( يا ذات الذات ومنتهى غاية الشهوات ، تشهد أنك المتصور في زمان بصورة ،
وفي زماننا هذا بصورة الحسين بن منصور ، ونحن نستجيرك ونرجو رحمتك يا
علام الغيوب " . (1)
لقد حج الحلاج عدة مرات . وفي أثناء حجه للمرة الثانية سافر إلى الهند
وقال : أنه يقصد من رحلته هذه دعوة أهل الشرك إلى التوحيد وتعلم السحر
الهندي ثم حج مرة ثانية ثم عاد إلى بغداد . (2)
ومما ذكر عنه ابراهيم بن فاتك قوله : دخلت يوما ً على الحلاج في بيت له
على غفلة منه . فرأيته قائما ً على هامة رأسه وهو يقول : يا من لازمني في
خلدي قربا ً وباعدنا بعجم القدم نت الحديث غيبا ً. تتجلى على حتى ظننت الكل
وتسلب عني حتى أشهد بنفيك . فلا بعدك يبقى ، ولا قربك ينفع ولا حربك يغني
ولا سلمك يؤمن . فلما أحس بي قعد مستويا ً وقال : ادخل ، ولا عليك . فدخلت
وجلست بين يديه . فإذا عيناه كشعلتي نار . ثم قال : يا بني ، إن بعض الناس
يشهدون عليّ بالكفر وبعض الناس يشهدون لي بالولاية . والذين يشهدون عليّ
بالكفر هم أحب إليّ وإلى الله من الذين يشهدون لي بالولاية .
وقال أبو بكر الشيلي : قصدت الحلاج وقد قطعت يداه ورجلاه وصلب على جذع .
فقلت له : ما التصوف ؟ فقال : أهون مرقاة منه ما ترى .
فقلت : ما أعلاه ؟ فقال : ليس لك إليه سبيل . ولكن سترى غدا ً فإن في الغيب
ما شهدته وغاب عنك . (3)
يقول فيه أبو ريحان البيروني : ( كان رجلا ً مشعيذا ً ومتصنعا ً مازجا ً
نفسه بكل انسان على حسب اعتقاده ومذهبه ، ثم ادعى حلول روح القديس فيه
وسمى بالإله وصارت له إلى أصحابه رقاع معنوية بهذه الألفاظ من ( الهو ) هو
الأزلي الأول النور الساطع والأصل الأصلي وحجة الحجج ورب الأرباب ومنشئ
السحاب ومشكاة النور ورب الطور المتصور في كل صورة غلى عبده فلان .
_____________
(1) الفرق بين الفرق ص 263 .
(2) ظهر الإسلام للدكتور أحمد أمين 2/70 .
(3) أنظر : أخبار الحلاج ص 24 ، 36 .
وكان أصحابه يفتتحون كتبه إليه بسبحانك ، يا ذات الذات ومنتهى غاية الذات ،
يا عظيم يا كبير أشهد أنك الباري القديم المنير المتصور في كل زمان وأوان .
وفي زماننا في صورة الحسين بن منصور عبدك ومسكينك وفقيرك والمنيب بك
والمستجير إليه ، والراجي رحمتك يا علاّم الغيوب يقول كذا وكذا.
وصنف كتبا ً في دعواه مثل : كتاب نور الأصل ، وكتاب جم الأكبر ، وكتاب حجة الأصغر .
ولم يتكلم بحرف فيما فعل به ولم يقطب وجهه ولم يحرك شفتيه .
وبقيت بقية من أتباعه المنسوبون إليه يدعون إلى المهدي ، وأنه يخرج
بالطالقان ، وهو الذي ذكر في كتاب الملاحم أنه يملأ الأرض عدلا ً كما ملئت
جورا ً . (1)
هذا فإذا أخذنا في عين الإعتبار أن القادياني ادعى بالنبوة ـــ كما يرى
خصومه من علماء الهند وباكستان ـــ وفي هذه النظرية أيضا ً يملك القادياني
له سواعد وأدلة ما يبرره ويخفف من حدة المسلمين وثورتهم ضده . لأن دعوى
النبوة للمسلمين ليست جديدة ، ولم يخترعها القادياني لأول مرة . لقد ادعى
مسيلمة الكذاب النبوة في حياة الرسول عليه السلام نفسه . ثم استفحل أمره
بعد وفاة الرسول ، مما دعا سيدنا أبو بكر إلى إعلان الحرب ضده . وبهذا
انتهت اسطورته . ثم انتشرت هذه الدعوى بين الشيعة فيما بعد .
النبوة عند الشيعة
يقول بن حزم في هذا الصدد : " قالت فرقة ( من الشيعة ) بنبوة علي ،
وفرقة قالت بأن علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم ، وعلي بن
الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد
بن علي والحسن بن محمد ، والمنتظر بن الحسن أنبياء كلهم . وفرقة قالت
بنبوة محمد بن اسماعيل بن جعفر فقط وهم طائفة من القرامطة ، وفرقة قالت
بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط وهم طائفة من
الكيسانية .
وقد حام المختار حول من يدعي النبوة لنفسه وسجع أسجاعا ً وأنذر بالغيوب
عن الله . وأتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة ، وقال بإمامة محمد بن
الحنفية .
وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد ـــ مولى بجيلة بالكوفة ـــ وهو الذي احرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار .
وفرقة قالت بنبوة بيان بن سمعان التميمي صلبه وأحرقه خالد ابن عبد الله القسري مع المغيرة بن سعيد في يوم واحد .
_____________
(1) الآثار الباقية ص 211 .
وقالت فرقة منهم بنبوة منصور المستير العجلي وهو الملقب بالكسف . وكان
يقول : أن المراد بقول الله عز وجل :
" وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ
السَّمَاءِ سَاقِطًا "
وصلبه يوسف بن عمر بالكوفة . وكان لعنه الله يقول :
أنه عرج به إلى السماء وأن الله تعالى مسح رأسه بيده ، وقال له : ابني اذهب
فبلغ عني .
وكان لعنه الله يقول : بأن أول من خلق الله تعالى عيسى بن مريم ، ثم علي
بن أبي طالب ، وكان يقول بتواتر الرسل وأباح المحرمات من الزنا والخمر
والميتة والخنزير والدم . وقال : إنما هم أسماء رجال . وجمهور الرافضة
اليوم على هذا ، وأسقط الصلاة والزكاة والصيام والحج .
وأصحابه كلهم خناقون رضاخون وكذلك أصحاب المغيرة بن سعد، ومعناهم في ذلك
أنهم لا يستحلون حمل السلام حتى يخرج الذي ينتظرونه . فهم يقتلون الناس
بالخنق وبالحجارة والخشبية ( بالخشب ) فقط .
وقالت فرقة بنبوة بزيغ الحائك بالكوفة . وفرقة قالت بنبوة معمر بايع الحنطة بالكوفة ، وقالت فرقة بنبوة عمير البتان بالكوفة .
وهذه الفرق الخمس من الفرق الخطابية . وقالت فرقة من أولئك شيعة بني
العباس بنبوة عمار الملقب بخداش ، فظفر به أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد
الله القسري فقتله وانتقل إلى لعنة الله " .
وعلى ضوء هذه الظواهر لم تبق ـــ كما يرى محمد أقبال ـــ الجبهات
المعارضة التي أنشأها علماء الهند وباكستان قوية راسخة متينة ضد القاديانية
. لأنها لا تحمل إلا سلاحا ً دينيا ً واحدا ً فقط وهو المبادرة بتكفير كل
عقيدة شاذة ، واعتمادا ً على حماسة المسلمين وقوتهم القاهرة في قهر كل صاحب
زيغ عنيد . ولكنها لم تتسلح بالأسلحة العلمية الحديثة التي تتميز بالأدلة
العلمية الجادة والمناقشة الهادئة والبراهين القوية والأسلوب الرقيق المتين
المقنع .
ومن هنا يتحتم علينا أن نعالج مشكلة القاديانية في العقيدة الإسلامية
معالجة علمية تتزن بالرزانة والإنصاف وتتوافر فيها الأدلة العلمية القوية .
ولا يسعنا في هذه العجالة أداء هذه المهمة بالتفصيل . بل إنما نستطيع أن
نقدم صورة موجزة كمدخل لهذا الموضوع لتبني عليها فيما بعد الدراسة الشاملة .
عقيدة نزول المسيح في الإسلام
ومما لا شك فيه أن معظم الأسلاف قد ذهبوا إلى أن المسيح قد رفع إلى
السماء حيا ً ، وأنه سوف ينزل مرة أخرى قرب القيامة لتحطيم الصليب وتطبيق
الشريعة الإسلامية المحمدية ولكن لا نجد إجماعه على هذا الأمر ، لأننا نجد
من بينهم من يرى وفاة المسيح وعدم عودته إلى الدنيا .
وإليكم هذه الأقوال :
في قول الله تعالى
" إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ "
(1) قال بن عباس رضي الله عنه في
تفسيره : أي : مميتك .
وعن الربيع بن أنس عن حسن أنه قال في قوله تعالى إني متوفيك يعني وفاة المنام . رفعه الله في منامه.
قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : أن عيسى لم يمت وأنه راجع إليكم قبل يوم القيامة .
قال مطراق الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت .
وقال بن جرير : توفيه هو : رفعه .
وقال الأكثرون : المراد بالوفاة ههنا النوم كما قال تعالى : " وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ " (2)
وقال بن زيد : متوفيك : قابضك .
قال القرطبي في تعليقه على أقوال السلف: والصحيح أن الله سبحانه وتعالى
رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد ، وهو اختيار
الطبري وهو الصحيح عن ابن عباس . (3)
هذا وفي تفسير قوله تعالى " وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا " (4) قول بن كثير : والضمير في قوله ( قبل موته )
عائد على عيسى عليه السلام ، أي : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك
حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ـــ على ما سيأتي بيانه ـــ فحينئذ
يؤمن به أهل الكتاب كلهم ، لأنه يضع الجزية ولا يقبل .
وقال القرطبي ـــ نقلا ً عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة ـــ : أنه ليس احد
من أهل الكتاب ( أي اليهود والنصارى ) إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا
عاين الملك ، ولكنه إيمان لا ينفع. لأنه إيمان عند اليأس وحين التبس بحالة
الموت . فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله .
وقال الحسن : يؤمنون قبل موت عيسى . والله انه لحي عند الله الآن . ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعين.
_____________
(1) آل عمران 3/55 .
(2) تفسير بن كثير 1/366 .
(3) تفسير القرطبي ص 2006 ( طبع مؤسسة دار الشعب بالقاهرة ) .
(4) النساء 4/159 .
وقيل : ليؤمنن به : أي بمحمد عليه السلام وأن لم يجر له ذكر . لأن هذه
الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به . والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان
بمحمد عليه السلام أيضا ً . إذ لا يجوز أن يفرق بينهم .
وقيل : ليؤمنن به : أي بالله تعالى قبل أن يموت ، ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة . " (1)
ومما يلاحظ لعى كل ما أورده ابن كثير عن ابن عباس وعن ابن الحسن وغيره
فيما يتعلق بنزول عيسى في تفسيره هذه الآية : أنها آرائهم الشخصية ولا يرفع
شئ منه إلى الرسول عليه السلام .
ونجد هنا تناقضا ً واضحا ً في أقوال السلف وهو أن إيمان أهل الكتاب
بعيسى في هذه الحالة لن ينفعهم ولا لن يخرجهم من الكفر والعذاب . وفي ذلك
ما أورده بن كثير عن ابن عباس : ولو ترى من شاهق أو ضرب بالسيف أو افترسه
سبع فإنه لابد أن يؤمن بعيسى . فالإيمان به في هذه الحالة ليس بنافع ولا
ينقل صاحبه عن كفره . " (2)
وإليكم الاحاديث الواردة عن نزول عيسى :
قد أورده البخاري في باب قصص الأنبياء عن ابي هريرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم
حكما ً عدلا ً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا
يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة له خيرا ً من الدنيا وما فيها .
ثم قال أبو هريرة : اقرؤوا ان شئتم : " وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا " .
وكذلك روى أبو هريرة أحاديث في وصف عيسى عليه السلام مثل حديثه : فإذا
رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كان
رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل .
وفي حديث النواس بن سمعان : فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين
مهرودتين واضعا ً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه
تحدر منه مثل جمان اللؤلؤ ، ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا مات نفسه
ينهى حيث انتهي طرفه .
وروى البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليلة أسرى بي لقيت عيسى . فنعته النبي
صلى الله عليه وسلم فقال : ربع أحمر ، كأنه خرج من ديماس " يعني الحمام .
(3)
_____________
(1) تفسير بن كثير 1/366 ، 1/577 ، 578 ، 583 .
(2) تفسير القرطبي ص 1343 .
(3) تفسير القرطبي 1/583 .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
والله لينزلن ابن مريم حكما ً وعدلا ً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير
وليضعن الجزية ولتتركن القماص ( جمع قلوس : وهي الناقة ) ، فلا يسعى عيها ،
ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ".
وعنه أيضا ً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والذي نفسي بيده ليهلن
ابن مريم لفج الروحاء ( طريق بين مكة والمدينة ) حاجا ً أو معتمرا ً أو
ليثنينهما ولا ينزل بشرع مبتدئ ، فينسخ به شريعتنا ، بل ينزل مجددا ً لما
درس منها متبعها .
كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
كيف انتم إذا نزل ابن مريم فيكم وأمامكم منكم ؟ وفي رواية ( فأمكم منكم ) .
قال بن أبي ذئب : تدري ما أمكم منكم ؟ قلت : تخبرني ؟ قال : فأمكم بكتاب
ربكم تبارك وتعالى وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم .
ومن الجدير بالذكر أن معظم الأحاديث عن نزول عيسى قد رواها أبو هريرة
ورفعها النبي صلى الله عليه وسلم . وقد شك بعض الأسلاف في رفعه إلى الرسول
وظنوا أنها من اقوال أبي هريرة. وفي ذلك قول ابن كثير : فزعهم حنظلة ان أبا
هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى . فلا أدري : هذا كله حديث النبي صلى
الله عليه وسلم أو شئ قاله أبو هريرة . " (1)
وحينما ننظر إلى الروايات الإسلامية يتراءى لنا أن حياة عيسى بعد رفعه
إلى السماء عقيدة مسيحية قد وجدت قبل الإسلام ، ونقلها إلى الإسلام بعض
اهل الكتاب من تابعي التابعين أو ممن روى عن أهل الكتاب مثل محمد بن اسحاق .
قال بن اسحاق عمن لايتهم عن وهب بن منبه أنه قال : قد توفاه الله ثلاث ساعات ، من أول النهار حين رفعه الله .
وقال بن اسحاق : والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه .
وعن أدريس بن وهب : أماته ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه . (2)
ومن ناحية أخرى فحينما نرجع إلى كتب النصارى المعاصرين أنفسهم ، نجد عندهم عقيدة نزول المسيح .
قال قال المسيح ـــ كما ذكر بطرس في خطابه