أن القادياني طبع على الموهبة الصوفية ، ومارس التجارب الصوفية ، واستغرق
في التأملات الصوفية في إحدى الزوايا دون اهتمام أو اكتراث بشئونه الشخصية
. ثم جادل المبشرين والقساوسة الهندوس ، وأظهر تفوقه عليهم . ولكنه في نفس
الوقت لم يعط قسطا ً كبيرا ً من الذكاء والفهم . وهذه الظواهر كلها قد
تمخضت فيه عن تغلب النزعة الصوفية المتمثلة في نظرية وحدة الوجود، وهي
مرحلة خطيرة من التجارب الصوفية يشعر فيها السالك الصوفي أن ذاته قد
اندمجت في ذات الله سبحانه أو اتحدث معها . وهذه النظرية هندوكية أصيلة كما
سنتحدث فيما بعد .
ومن جراء هذه الأحداث طرأت عليه تطورات خطيرة للغاية ، منها شعوره بأنه
انسان غير عادي ، وأصبح على صلة وثيقة مع الله نتيجة لرياضته الصوفية
الشاقة ، وأن الله يلهمه ويكشف عليه أمور غيبية كثيرة ، وبعثه لهداية
البشرية جمعاء . شأنه في ذلك شأن كبير من المتصوفين الذين تاهوا في وديان
التصوف الحالكة من جراء الرياضات الصوفية ، وانخدعوا ببعض الأمور التي
انكشف عليهم نتيجة لها ، واعتبروا أنفسهم مهديين . وإلى ذلك يشير كلمه
الصادر في بداية الامر ، كما أورده على لسان الله سبحانه ـــ معاذ الله ـــ
بأنه خاطبه في شهر مارس 1882م :
" يا أحمد ، بارك الله فيك . وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى . الرحمن علم
القرآن ، لتنذر قوما ً ما أنذر آبائهم ، ولتستبين سبيل المجريمن . قل :
إني أمرت وأنا أول المؤمنين . قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
ً . كل بركة من محمد صلى الله عليه وسلم . فتبارك من علم وتعلم . قل : إن
افتريته فعلي إجرامي . وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله . لا مبدل لكلمات الله . ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . إنا
كفيناك المستهزءين ، يقولون : أنى لك هذا ؟ إن هذا إلا قول البشر .
وأعانه عليه قوم آخرون . أفتأتون السحر وأنتم تبصرون . هيهات هيهات لما
توعدون . أم من هذا الذي هو مهين . ولا يكاد يبين . جاهل ومجنون . قل هاتوا
برهانكم إن كنتم صادقين . هذا من رحمة ربك . ويتم نعمته عليك : ولتكون آية
للمؤمنين . إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ... إني رافعك إلي ،
وألقيت عليك محبة مني لا إله إلا الله ، فاكتب وليطبع ، وليرسل في الأرض "
(1) .
ثم زعم أن الله ألهمه وكلفه بالقيام بمهمة الجهاد العلمي ضد الحركات
التبشيرية والطوائف الهندوكية المذكورة . وفي ذلك جاء قوله : " لقد كلفني
الله الإصلاح بمسكنة وتواضع وفقر وتذلل على طريقة النبي الناصري
الإسرائيلي ( يعني به المسيح ) . وقد ألفت لهذا الغرض كتاب ( براهين أحمدية
) الذي ظهرت منه 37 ملزمة . وقد بشرني الله : أن كل من يقرأ هذه الرسالة
الموجهة إليه ثم لا يقر بالحق ، يكتب له الهزيمة والخذلان " (2) .
_____________
(1) القادياني والقاديانية للشيخ أبي الحسن علي الندوي ص 31 نقلا ً عن براهين أحمدية
(2) نفس المصدر السابق
ومن الجدير بالذكر أن الإلهام الأول إليه على حد قوله لم يكن إلا
اقتباسات من القرآن الكريم ، إذا شحن كلماته وآياته في جمل وعبارات خاصة له
دون ربط أو نسق، وتركها في تناقضات واضطرابات وفوضى فكرية لا نجد لها
نظيرا ً لدى أي مؤلف صوفي من نظرائه. وكل هذا يدل على أنه فقد صوابه في هذه
المرحلة من تجاربه الصوفية اليوجية وطرأ على عقله خلل محسوس ، وأخذت قوة
البيانة إلى الإنخفاض تلك التي مكنته من قبل من مناظرة المبشرين المسيحيين.
وإحراز التفوق عليهم . وهكذا يفقد الصواب كل من انغمس في التجارب الصوفية
الرامية إلى وحدة الوجود أو اليوجية الهندوكية إلى أخمص قدميه .
لقد جمع القادياني كل ادعاءاته في كتاب سماه ( براهين أحمدية ) ونشره
وبعث بنسخة منه إلى جميع الأعيان من العلماء المسلمين والقساوسة النصارى
والهندوس ، وزعم في رسالة مطبوعة أرفقها إلى هؤلاء : أنه مكلف من الله
سبحانه وتعالى بإقامة حجة الله ، وأعرب فيها عن استعداده لإقناع الجميع
وإزالة شكوكهم . ووجه دعوة خاصة إلى بعضهم للقدوم إلى دولته ( قاديان )
لمرافقته لكي يستطيعوا مشاهدة معجزاته وآياته وخوارقه التي أنعم بها عليه
لإثبات دعواه . ثم تتابع ظهور ثلاث مجلدات من هذا الكتاب تتضمن انطباعاته
وتجاربه الصوفية ونتائجها التي سماها الوحي والإلهام . ونسبها إلى الله
سبحانه وتعالى وحسب أنه مكلف من الله .
ولقد زعم في المجلد الرابع من هذا الكتاب أنه يشتمل على ما أوحى الله
إليه ـــ على حد زعمه ـــ باللغتين الأردية والإنجليزية . وإليكم نموذج مما
جاء في هذا الكتاب : " وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ، قالوا أنؤمن
كما آمن السفهاء ؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . قل يأيها الكافرون
لا أعبد ما تعبدون .. ألخ . ومما يلاحظ على هذا الكتاب :
1- أنه استكثر فيه من دعواه على أن الوحي مستمر عليه ، واعتبره البقية
الباقية من آثار الأنبياء والرسل ، وزعم أنه من لدن عزيزي حميد ، وادعى أنه
حصل على نور اليقين والعلم القاطع من الله سبحانه وتعالى وكلفه الله بمهمة
إصلاح العالم ودعوة الناس إلى الإسلام بوصفه مجددا ً لهذا الدين ، وأنه
يرى في نفسه خصائص ومميزات تشبه ما وجد في المسيح عليه السلام .
2- سجل فيه إقراره بأن المسيح قد رفعه الله إليه ، وأنه سوف يعود إلى هذه الدنيا .
3- صرح فيه بوضوح أن الله قد وعد بصيانة الإسلام وحفظه ، وليس له أو لأي
أحد حق النسخ أو التصرف فيه . أن الكتب الأخرى الموجودة على وجه هذه الأرض
لا تتمتع بمثل هذه الضمانات من الله. ومن هنا أصبح الإسلام خطرا ً مهددا ً
جميع الأديان في العالم ، ولم يكن من الصعوبة أبدا ً أن تذوب هذه الأديان
في الإسلام وتنحل فيه . (1)
لقد أثار كتابه ( براهين أحمدية ) ضجة كبرى بين أوساط المسلمين في ولاية
بنجاب التي عاشت في الخرافات والأوهام ردحا ً طويلال ً من الزمن كما صرح
بذلك واحد من أبناء هذه الولاية البارزين وهو الشاعر الفيلسوف ( محمد ) كما
سنورد مقتطفات من آرائه عن القاديانية فيما بعد .
_____________
كانت الولاية في معزل عن مراكز الثقافة الإسلامية في الهند ، ولذلك شغف
مسلموا هذه الولاية بأنواع من الخرافات والأوهام التي نسجها المتصوفون
الومبتدعون والمخرفون لتحقيق مآربهم الشخصية على حساب مسلمي هذه الولاية .
ومن أجل ذلك بادر المسلمون البسطاء فيها إلى الإستجابة لدعوة القادياني
والإعجاب بها واعتناقها . ولم تزل هذه الولاية تشكل الأغلية لمعتنقي
القاديانية بالنسبة إلى الأقطار الأخرى في باكستان .
تم التطوير باستخدام نظام مداد كلاود لإدارة المحتوى الرقمي بلغات متعددة .