ما أجمل هذه الأرض , فيها الشجر والحجر , فيها الحيوان والإنسان , نجد في كل شيء دلالة على علم وحكمة صانعه عز وجل , مضت قرون وتمضي أخرى , هكذا هي لا تدوم لأحد , فالموت يفني كل حي على الأرض ,فيرث الميت الحي , ولو دامت للميت لما ورثها الحي , قال سابق البربري:
إذا قضت زمر آجالها نزلت **على منازلهم من بعدها زمر
ننظر فيمن مضى ونقول كما قال ابن الوردي في لاميته :
كُتب بعد بعد أن تحللت تلك الأجسام , فبعضها في البر وبعضها في البحر وكم أحرق منها , ومرد الشبهة إلى القدرة على إعادة ما كان إلى ما هو عليه , فكان إنكار أهل الكفر والإلحاد قديما وحديثا على بعد تحلله وكيف يعود؟ وأنه يشاهد أحدا عاد البعث بالجسد فزعم إنها للروح دون الجسد , كالفلاسفة وبعض أهل البدع .
قال القحطاني في نونيته :
علم الفلاسفة الغواة طبيعة //// ومعاد أرواح بلا أبدان
لولا الطبيعة عندهم وفعالها //// لم يمش فوق الأرض من حيوان
ولم يكذب هؤلاء بعد عجز عقولهم عن إدراك ذلك بالمحسوس بزعمهم , فكيف يمكن لهذه الأجساد أن تعود ؟ . ولم يكن الأمر كما يظن هؤلاء , بل هو يدرك بالعقل , بنفس الطريقة التي حاولوا أن يستخدموها لنفي البعث, والقرآن الكريم , فيه آيات بينات واضحة تزيل إستشكلات هؤلاء وشبههم .
فإن إستشكالهم محصور في أمرين :
- إمكان أن يعاد الجسد كما كان .
- بعد أن بلي الجسد !!! إذا فخالقه أول مرة لا شك أنه قادر أن يعيده كما كان , وما يرونه من نشأة الجسد ونموه ثم موته وتحلله إلا أن يعرفوا بقدرة وحكمة من خلقه , فهو القادر على ذلك
فخالق الشيء قادر على إعادة خلقه دون عجز سواء تحلل الجسد أم بقي على حاله , أو حتى لو أصبح شيئا آخر :
وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [الإسراء/49 ، 51]
فلو كنتم ترابا أو صرتم حجارة أو أصبحتم حديدا , فهذا وإن كان بعضه أصعب من بعض من قياس الناس إلا أن ذلك للله عز وجل سواء , فلا يعجزه صعب بني آدم ولا غيره .
فإن العظام تبلى ولكن العظام لم تكن يوما وخلقها ربها وكساها لحما وهذا اللحم والعظم إنما خلقه الله من هذه الأرض فهل يعجز من خلقهم أول مرة بإعادتهم كما كانوا ؟.بل هذا الأمر أذل من أن يعجز الخالق عز وجل ,فبين لهم أن القدرة موجودة لمن خلقهم أول مرة.
ثم بين الله لهم أمرا يخصهم ويفحم عقولهم , وهو أن من خلق الأعظم لا يعجز عن الأقل فيذكرهم بكبير القدر :
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا } [الإسراء/99]
فبين لهم ما في الآية الأولى أن خالق الشيء لا يعجز أن يعيده وكذلك قرنها لهم بالسموات والأرض التي هي أعظم من خلق الناس
{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [غافر/57]
فأيها الإنسان مهما نظرت إلى نفسك فلست إلا شيء قليل فانت اصغر من بعض المخلوقات وأقل قدرا كالسموات و الأرض فإن الله فالله عز وجل خلقكم من بعض ذلك الخلق وهي تربة الأرض ومائها .فتذكروا أول خلق أنه حدث والذي خلق الخلق يعيد الخلق تارة أخرى :
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء/104]
وتشابه قلوب أهل الإلحاد أولهم وآخرهم , فجعلوا إستمرار الحياة دليل على عدم البعث لأن الخلق يحدث دائما وقولهم إنها أساطير الأولين هو بعد موته:
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) [المؤمنون/84-89]
وعدم عودة الموتى إلى الحياة مرة أخرى في هذه الدنيا لهو دليل على أن من مات لا يعود إليها. فهو دليل أن الحياة والموت بيده عز وجل , إذ لوعاد دون إذن الله لكان دليلا على العشوائية , وعدم عودتهم إلى الدنيا دليل على أن الذي خلقهم لم يعيدهم ,وأن الأمر لم يحدث بدون خالق مدبر عليم مسيطر على ما خلق , لان وجود الشيء هو دليل على أنه من الموجودات, والمخلوقات الموجودة لو لم كان وجودها بسبب , فإن عودتها ممكن بنفس السبب , واناس كلهم يفهموا ذلك فهم يسلموا أن الوجود دليل الإمكان , فلو تحقق شرط الخلق لعاد الشيء كما كان . فعدم عودة الموتى دليل على أن الذي خلقهم لم يعيدهم ,لأنه مالك لسبب وجودهم وهو من أوجدهم عز وجل. بل هو دليل أن كل شيء مقدر بطريقة حكيمة : . فقد بين عز وجل ان من يموت لا يرجع الى هذه الدنيا الا باذنه فقال عز وجل :"أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ" فبين الله عز وجل أن الحقيقة أن من يموت لا يرجع إلى الدنيا كما هو ممكن عند الدهرية الملاحدة فالحال دليل على أن الموت بحال الميت البعث ويرونه منافيا للعقول :
" وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)"
فبين الله لهم ضعف عقولهم وعدم تدبرهم بما حولهم ونسيانهم واقع حالهم " بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ " فاي ضلال اشد من عدم إدراك الإنسان لأصله ولحاله وإلى منزلته بالنسبة للخلق " أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ "
وقد بين الله عز وجل ان أصل الانسان انه كان من شيء ميت تم خلقه خلقا البعث والنشور :
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
فسبحان الله كيف تطيش عقولهم وتعمى ! فخلق الإنسان في بطن أمه أطوارا وخلقا بعد موتها وهي صورة جميلة يراها الانسان دائما , فلفت إنتباهه لها وجعل قلبه مع الصورة الجمالية التي يرسمها القران في القلوب لتلك الأرض وكأنك ترى ذلك بأم عينك , ثم بعد بعد موتها ,إن الله الذي أحيا الأرض هو نفسه الذي سيحيي الموتى وهو قادر أصلا على كل شيء . فاذا نظرنا الى الرياح كيف تثير السحاب وكيف يسوقه الله إلى أرض بعيدة قاحلة وكيف ينزل عليها المطر فتنبت الأرض وتهيج . لا ننكرها بل نقبلها وهذه الصورة تحدث في أشهر حتى تكتمل فألإيجاز دليل على وضوح الصورة عند الناس والعبرة بسيطة سهلة يعتبر بها كل ذي لب :" إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى " وهذه الصورة هي صورة مقابلة لما يحدث للناس فالانسان يكون ميتا ثم يحيه الله ويميته ثم يحي آخرين , وكذا الزرع يكون بذرة فيسقى الماء فينبت , ثم يصفر ويصبح هشيما تذروه الرياح , ثم يعود كم بدأ ثم يعاود ذلك , فهذه صورة تمر على كل إنسان في حياته يراها ولا ينكرها فلو سألناه الموت والحياة كل يوم .
فأي عاقل ينكر بعد هذه الادلة عليه ؟
ومن اسلوب القران في اثبات بعد تحلله . وأعظم ما يلفت الإنتباه إليه أنه كان نطفة لا قيمة لها ولم يكن شيئا مذكورا حتى إذا خلقه الله في بطن أمه خلقا بعد أن لم يكن أي أن وجوده دليل على إمكان إعادته وسبقت الإشارة لذلك سابقا, وهو كقوله تعالى :
"هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)"
"قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)"
فاذا نظر الانسان لخلقه وأنه أصبح موجودا ولم يكن قبل ذلك شيئا مذكورا علم أن بعثه البعث حقيقة لا يكون بسبب العجز لأن الذي فعل شيء لا يعجز على إعادته كما كان. والخالق الذي خلق الشيء العظيم كالسموات والأرض لا يعجز عن خلق شيء منهما ولا أقل منهما , وقد بين الله لنا صورة البعث في الزرع الذي نراه في حياتنا .
وخلاصة القول أن الخلق دليل على القدرة . وإعادة الشيء إلى حاله لا يعجز عنه من صنع أول مرة . وهذه تقبلها العقول دائما بتوفر الحال الأول من قدرة الخالق وارادته عز وجل .
تم التطوير باستخدام نظام مداد كلاود لإدارة المحتوى الرقمي بلغات متعددة .