النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو ، يقال : نسخت الشمسُ الظلَّ ، يعنى أزالته ومحته ، وأحلت الضوء محله .
ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة ، سواء كانت نقلاً عن مكتوب ، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل .
والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء ( ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ ، مثل طبع الكتب الآن ) .
أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط ، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية :
" النسخ هو وقْفُ العمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة ، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة ، لِحكمة قصدها الشرع ، مع صحة العمل بحكم النص السابق ، قبل ورود النص اللاحق (1) والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم ، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت ، وإحلال الحكم بالجلد مائة ، والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس (2).
النسخ و وروده فى القرآن ، على أن القرآن ليس وحياً من عند الله . ونذكر هنا عبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة : " القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية ، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه ، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه ، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف .
لكن الله يعلم بكل شىء قبل حدوثه . فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله ؟
ليس الله إنساناً فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم ؟ !
نحن لا ننكر أن فى القرآن نسخاً ، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات ، وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة ، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن (3) .
أما جمهور الفقهاء ، وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج ، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه ، قل من لم يذكره منهم قدماء ومُحْدَثين . والذى ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ فى القرآن عيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله . ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار .
إن الناسخ والمنسوخ فى القرآن ، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية ، فى فترة نزول القرآن ، الذى ظل يربى الأمة ، وينتقل بها من طور إلى طور ، وفق إرادة الله الحكيم ، الذى يعلم المفسد من المصلح ، وهو العزيز الحكيم .
أما ما ذكرتموه من آيات القرآن ، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان : أحدهما فيه نسخ فعلاً ( منسوخ وناسخ )
وثانيهما لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه ، ونحن نلتمس لكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
من الآيات التى فيها نسخ ، وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان :
( واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) (4)
ثم قوله تعالى :
( الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله ) (5)
هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً ، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ ، أو يجعل الله لَهُنَّ حكماً آخر .
وكان ذلك فى أول الإسلام . فهذا الحكم - حكم حبس الزانية فى البيت - ، حين شرعه الله - عز وجل - أومأ فى الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت ، له زمان محدد فى علم الله أزلاً . والدليل على أن هذا الحكم كان فى علم الله مؤقتاً ، وأنه سيحل حكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله : ( أو يجعل الله لهن سبيلاً ) . هذا هو الحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقية قرآناً يتلى إلى يوم القيامة .
أما الناسخ فهو قوله تعالى فى سورة " النور " فى الآية التى تقدمت ، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائة جلدة ، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة . بل فى الزانية والزانى غير المحصنين . أما المحصنان ، وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتى الموت .
وليس فى ذلك غرابة ، فتطور الأحكام التشريعية ، ووقف العمل بحكم سابق ، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية فى الإسلام . ولا نزاع فى أن حكم الجلد فى غير المحصنين ، والرجم فى الزناة المحصنين ، أحسم للأمر ، وأقطع لمادة الفساد .
وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً آخر يحل محله ، وهو الجلد والرجم - حاشا لله .
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره ، أمَّا أن يكون فيه مساس بكمال الله . فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام .
ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسى - عليه السلام - فى قوله لبنى إسرائيل : ( ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم ) (6).
وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم .
ومثيروهذه الشبهات - ضد القرآن - يعرفون جيداً وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد . ومع هذا يدعون - بإصرار - أن التوراة والأناجيل - الآن - متطابقان تمام الانطباق (7) .
قوله تعالى
( يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) (8)
( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) (9)
والآيتان فيهما نسخ واضح . فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10) ، والآية الثانية توجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2) .
وهذا التطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه ، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباء القتالية فما الذى يراه عيباً فيه خصوم الإسلام ؟ لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق ، لأن الله - عزوجل - لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الآيتين . لكنهم يبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه ، ثم ارتضاه للناس ديناً .
وقد قال الله فى أمثالهم :
( ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) (10) .
ومن هذا القسم - أيضاً - الآيتان الآتيتان :
( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج . . . ) (11) .
وقوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً . . .) (12) .
أجل ، هاتان الآيتان فيهما نسخ ؛ لأن موضوعهما واحد ، هو عدة المتوفى عنها زوجها .
الآية الأولى : حددت العدة بعام كامل .
والآية الثانية : حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال .
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى ، وإن كان ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية .
والناسخ هو الآية الثانية ، التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال ، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها .
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف ، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً ، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف ، أدعى لامتثال الأمر ، وطاعة المحكوم به . . وفيه بيان لرحمة الله - عز وجل - لعباده . وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب .
أما القسم الثانى ، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها ، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل ، لا يفرقون بين الحطب ، وبين الثعابين ، وكفى بذلك حماقة .
وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً ، وهو أبعد ما يكون عن النسخ .
( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (14).
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً ، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين ، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش ، لأن قوله تعالى ( لا إكراه فى الدين ) سلوك دائم إلى يوم القيامة .
والآية الثانية لم - ولن - تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم ؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى : ( لا إكراه فى الدين ) .
لأن قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) له سبب نزول خاص . فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون .
وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة ، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها . فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة ، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء .
أجل : إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام . ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم ، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها ، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام .
ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم ، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم ، فلما نقضوا العهود ، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة .
ويعلمون - كذلك - أن النبى ( عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران ، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية ، ثم أقرهم على عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية .
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام . هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام ، ورحابة صدره ، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد .
فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برىء منه ؟ إنه الحقد والحسد . ولا شىء غيرهما ، إلا أن يكون العناد .
( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ) (15)
( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) (16)
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما . بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى ، فقد جاء فى الآية الأولى : " فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى : ( رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) فأين النسخ إذن ؟ .
أما المنافع فى الخمر والميسر ، فهى : أثمان بيع الخمر ، وعائد التجارة فيها ، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر ، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام ، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً ، حتى لا يضر بمصالح الناس .
وبعد أن تدرج فى تضئيل دورها فى حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها ، ونبه الناس على أن حسم الأمر بتحريمها آتٍ لا محالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى ، جاءت آية التحريم النهائى فى سورة المائدة هذه : ( رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هى حقيقة النسخ وحكمته التشريعية ، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نادر فى القرآن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح .
(2) الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى . أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة ، فخصصت الجلد بغير المحصنين .
(3) منهم الدكتور عبد المتعال الجبرى وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة ، والدكتور محمد البهى ومنهم الشيخ محمد الغزالى .
(4) النساء : 15 .
(5) النور : 2 .
(6) آل عمران : 50 .
(7) انظر كتابنا " الإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى " طبعة دار الوفاء .
(8) الأنفال : 65 .
(9) الأنفعال : 66 .
(10) الأنعام : 7 .
(11) البقرة : 240 .
(12) البقرة : 234 .
(13) البقرة : 256 .
(14) التوبة : 29 .
(15) البقرة : 219 .
(16) المائدة : 90 .
تم التطوير باستخدام نظام مداد كلاود لإدارة المحتوى الرقمي بلغات متعددة .