المطالع لحياة العباقرة والمصلحين والمؤثرين في التاريخ يجد أغلبهم يتميز بنبوغ مبكر، وحياة علمية تجمع بين الجد والرغبة الجامحة في العلوم والمعارف، والذكاء المسرِّع للتلقي والإبداع، وهذا الذي ننتظره من ميزرا غلام أحمد، وهو الذي يدعيه أتباعه. فالمطالع لكتبه يجدها تزخر بادعاءات عريضة سنعرض لبعضها بعض وقوف مختصر عند مسيرته التّعلمية. أولا: مسيرته التعلمية والتأليفية:يتحدث ميرزا عن نفسه فيقول إنه درس علوم العربية على معلمِين عاديين، حيث أنه لما بلغ السادسة من عمره اختار له أبوه معلما للقرآن والفارسية، وفي حدود العاشرة تتلمذ على معلّم آخر فدرس عنده قسطا ضئيلا من قواعد النحو، وفي السابعة عشر من عمره استدعى والده إلى قاديان شيخا درس عليه بعض كتب النحو والمنطق والطب وغيرها من العلوم المتداولة، ولما رجع الشيخ إلى بلدته صحب معه ميرزا غلام كما أنه درس على يد والده الطب، إذ كان والده طبيبا تقليديا([1]). والذي نلاحظه أن والده كان حريصا على تعليمه، حيث تعهده بالمشايخ من السادسة من عمره، وأن له القدرة المادية التي تمكنه من استدعاء أساتذة خاصين من خارج قاديان، زيادة إلى كون الأب طبيبا مما يجعلنا نفترض أنه يمتلك مكتبة أقل ما فيها كتب الطب وكتب الثقافة الشرعية العامة السائدة آنذاك باللغات المتداولة آنذاك: العربية والفارسية والأوردية، كل هذه الظروف إذا صاحبها جد من ميرزا ورغبة في طلب العلم تجعله قادرا على المناقشة والكتابة بالعربية وخاصة إذا كان شغوفا بمدارسة كتب العربية وتأملها وهو الذي يدعيه له أتباعه. فقد نُقل عنه أنه كان مطالعا شغوفا راغبا في مطالعة الكتب وأنه كان منقطعا للدراسة والتأمل وقراءة الكتب الشرعية إلى حين زواجه بل وبعد زواجه([2])، بل إنه لما اختار له أبوه عملا لم يقبله إلا ترضية له ومع ذلك كان كثير القراءة والتأمل يأبى الحديث في العمل خارج أوقاته([3])، ولما عاد إلى بلدته بعد الاستقالة من العمل كان يقضي جل وقته في تدبر القرآن والاطلاع على التفاسير وكتب الأحاديث([4])، ووصفت دراسته للقرآن الكريم بالمعمّقة([5]). هذه المسيرة المدّعاة له أحتمل صدقها لأنها تعكس في تصوري مستوى كتبه المؤلفة باللغة العربية، فهي كتب عادية لا خارق فيها كما يدّعيه لنفسه. أما مسيرته التأليفية فقد كانت جدّ عادية من الناحية العمرية، ولم يكن بها أمر خارق من أي ناحية، فإذا كنّا نعجب حين نسمع أن الشيخ امحمد بن يوسف اطفيش الجزائري نظم مغني اللبيب في النحو في 5000 آلاف بيت وعمره 15 سنة، وأن الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي ألف ألفية في علم التصريف وهو في 16 من عمره([6])، وكان العجب يتملكنا حين نعلم أن بعض العلماء كثيري التأليف ماتوا عن أعمار لا تعادل في العادة مؤلفاتهم من أمثال الشيخ عبد الله بن حميد السالمي نور الدين العُماني، وأبي حامد الغزالي، والنووي. فإننا لا نجد في مسيرة ميزرا غلام أحمد أي أمر مبهر من هذه الجهة، فأول مقال نشر له كان في مجلة (منشور محمدي) في أغسطس (آب) عام 1872([7]) وعمره حينذاك 37 سنة وهو عمر يمكن أن يكون فيه الإنسان دكتورا. أما أول مؤلف له فهو كتابه المعروف (براهين أحمدية) الذي ابتدأه سنة 1880م([8]) وعمره 45 سنة وهو العمر الذي توفي فيه الإمام الضرير نور الدين السالمي. وفي سنة 1891 ألف كتبه الثلاثة التي ادعى فيها أنه المسيح الموعود وهذه الكتب هي: فتح الإسلام، توضيح المرام، إزالة الأوهام([9]) وألف رسائل عديدة في هذا المعنى وفي سنة 1900 ادعى النبوة وقصر همّته التأليفية في هذه النقطة فقد ألف أربعة رسائل كان وعد أن تكون أربعين ثم عدل عن ذلك تأسيا بالله تعالى في إبدال خمسين صلاة بخمس([10])، واستمر في التأليف حيث بلغ عدد مؤلفاته نيفا وثمانين كتابا. وهو إنتاج قد يبدو أول وهلة غزيرا، ولكنا إذا ما قارناه بالدعاوى التي يدّعيها لنفسه، والعلم الذي يزعم آتاه إياه فإنا سنجده قليلا، وكذلك إذا ما قارناه ببعض الأعلام فإنه لا يعدو أن يكون إنتاجا بدائيا كمّا وكيفا، ولنستحضر أبا حامد الغزالي الذي كانت حياته تقارب النصف من حياة ميرزا غلام أحمد، بينما إنتاجه تجاوز ما أنتجته الذهنية القاديانية، وهو –أي الغزالي- مع كثرة تآليفه، اكتست جودة تفرض على الدارسين تأملها قرونا وقرونا، ولا يجدون فيها إلا جدّة تثير العجب. فتآليفه في المنطق ساهمت في نشر المنطق في العالم الإسلامي، وتأليفه في أصول الفقه كان إضافة ممتازة، وكذا مؤلفاته الكلامية، ونصرته للتصوف السني سدّ على الشيطان كثيرا من السبل التي كان يسلكها لقلوب الصوفية، وسيرته التي كتبها في المنقذ من الضلال لا تزال ملهمة للكثير، كل ذلك –وبتأمل قليل-يؤكد أن ميرزا غلام أحمد لم يكن إلا إنسانا بسيطا مقارنة بالنماذج التي سبق ذكرها، والكثير التي لم تذكر. ومما يدل على أن كتبه ليست كما يدّعيه لها ميرزا غلام وأتباعه، كونها لم تنتشر ولم تلق أية عناية علمية من عموم المسلمين، إذ لا يكاد القارئ يسمع عنهم وعن كتبهم إلا في معرض الحديث عن التيارات الشاذة عن الإسلام الحنيف. وقد يتبادر للذهن أن عدم انتشارها عائد إلى الموقف من ميرزا غلام وديانته، ولكن الحقيقة التي تتجلى بعد التأمل ليست كذلك، فانتشار الكتب وإحداثها ضجّة علمية أو وعدمه تتحكم فيه قيمة تلك الكتب من الناحية العلمية، فكتب أبي حامد الغزالي الشافعي الأشعري الصوفي شرّقت وغرّبت وفرضت نفسها على عموم المسلمين، بل وعموم البشرية لقوتها العلمية وما فيها من فوائد كثيرة ، فقد تلقاها الإباضي، والشيعي، والمسيحي...بالدراسة والتمحيص والاستفادة، ولم يؤثر الخلاف المذهبي والديني في ذلك، وأقصى تأثيره يكون في تأليف كتب تنطلق من كتب أبي حامد مع تلافي ما يخالف المذهب، كما كان من الجيطالي الإباضي الذي ألف قناطر الخيرات منطلقا من إحياء علوم الدين. وكذلك الأمر بالنسبة لكتب سيد قطب، فإذا تتبعنا الاستفادة من كتابه (في ظلال القرآن) لوجدناه تجاوز المذهبيات والعرقيات وانطلق في ساحة العلم يفرض نفسه على طلبة الدراسات القرآنية لغزارة ما فيه، ولا يسمح لمفسر للقرآن أن يتجاوزه دون الاستفادة منه . وهكذا الأمر بالنسبة لكتب العلامة الشيعي محمد باقر الصدر، ككتابَي (فلسفتنا) و (اقتصادنا) فإنها شرقت وغربت، وأفادت، وهكذا الأمر بالنسبة لكتاب العلامة الإباضي امحمد بن يوسف اطفيش (شرح النيل وشفاء العليل) الذي أفاد الدّرس الفقهي ولم يمنعه تمذهبه عن درجة الإفادة الإسلامية العامّة. ولعّل أعظم ما يجلّي لنا ما نريد شرحه مؤلفات المعتزلة، فإنهم وإن انقرض مذهبهم من حيث المنتمين إليه إلا أن كتبهم لا تزال لقوتها تفرض نفسها على الدارسين وطلبة الفلسفة والعلوم الشرعية والأدبية،، فهذا (الكشاف) للزمخشري يتربع على عرش تبيان البلاغة القرآنية على صغر حجمه، وتلك مؤلفات الجاحظ تشهد للروعة الأدبية، وهذا (مغني) القاضي عبد الجبار شاهد على عبقرية العقلية الكلامية، و كتابه (دلائل النبوة) الذي قال عنه الذهبي: «وصنف (دلائل النبوة) فأجاد فيه وبرّز»([11]) وهي شهادة من حنبلي يعتقد في القاضي عبد الجبار اتباعَ الرأي الممقوت([12]). وهذا المذكور مختصر، ولو شئنا الإطالة في بيان تطواف المؤلفات المتعددة المذاهب لطال بنا الحديث، ولكن فيما سبق إفادةٌ وتبيانٌ للحق في مسألة عدم انتشار كتب ميرزا غلام أحمد، فلو أن له مقدرة محترمة في التأليف لفرضت نفسها على طالبي العلوم بالقوة([13])، إذ الأرض تزخر بطلبة يعشقون المعلومة لذاتها، ويأسرهم الإتقان العلمي لنفسه، ولا يصدّهم عدم ارتضائهم مذهب مؤلف أو دينه عن الاستفادة من كتبه. ثانيا: مكانته العلمية المدّعاة:مجمل ادعاءات ميرزا غلام في مقامه العلمي تدور حول كونه لدنيا فيضيا من الله تعالى مباشرة من غير تعلم، وأنه بلغ النهاية في العلم والمعرفة وأورثه الله علوم الأنبياء والعارفين وهذه بعض النقول عنه: - عابه الصوفية على عدم مبايعته لشيخ يأخذ عنه الطريقة فقال: « ألا يعلمون أن المسيح ينزل من السماء بجميع علومه ولا يأخذ شيئا من الأرض».([14]) فجميع علوم المسيح سماوية وليس فيها شيء أرضي، ولكن هذا خلاف مسيرته العلمية، فهو كان مطالعا نهما وكان له أساتذة خصوصيون. - يتحدث عن من بلغ درجته فيقول: « يجعل ذلك المبعوث زكيا وبالفيوض حريا، ويكشف عينه ويهب له علما غضًّا طريا، ويجعله لعلوم الأنبياء من الوارثين...وما يقول إلا ما علَّمه لسان الرحمن ...»([15]) فعِلمه أفضل العلوم «فإن العلم المأخوذ عن المحدثات لا يساوي علما حصل من رب الكائنات...»([16]) - هو وارث الأنبياء والأولياء: «...ويجعل وارثا لكل من مضى من قبله من النبيّين والصديقين وأهل العلم والدراية، وشموسِ القرب والولاية، ويُعطَى له علم الأولين ومعارف السابقين من أولي الأبصار وحكماء الملة تحقيقا لمقام الوراثة...»([17]) - ثم إن علمه لا يُلحق ولو بقراءة المكتبات الكبيرة «ولن تبلغ أفهامهم وعلومهم، ولو كان عندك جبل من الكتب، فإنهم يؤتون علما وفهما من لدن ربهم، وتنوّر أفهامهم، وتصفى عقولهم، وتوسع مداركهم، ويعصمهم يد الرب من مزلة...» ([18]) كل هذه الدعاوى لا يمكن التسليم بها إلا بالدليل والدعاوى إن لم تقيموا عليها *بينات أصحابها أدعياء. ونحن سنسلك طريقين في سبيل التحقق منها هما: تدبر مؤلفاته ومقارنته بمن لم يدع النبوة، فإذا وجدنا في مؤلفاته أخطاء علمية أيقننا أن الرجل كاذب. وإذا وجدنا أحدا سبقه في الإنجاز ولم يدع النبوة علمنا أن الرجل عادي يدعي مقاما أعلى منه. وقبل مغادرة هذه النقطة أقف عند عبارة تكفي للحكم على طبيعة علمه أهو غيبي أم ادعائي، إذ يقول في كتابه التبليغ في مقام الاستدلال على صدق ادعاءاته: «وأما الواقعة المسنونة المعلومة التي أراد الله أن يريه غريبة نادرة فنظيره في القرآن واقعة حلم فرعون، إذ قال: +إِنـِّيَ أَرَىا سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يـَاكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَآ أَيـُّهَا الْمَلأُ اَفْـتُونِي فِي رُؤْيـَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيـَا تَعْبـُرُونَ"...»([19]) فنحن حين نقرأ سورة يوسف نجدها من أولها إلى آخرها خالية من ذكر فرعون، وإنما تعبر عن أعلى سلطة في مصر بالملك عكس التوراة التي تتحدث عن فرعون زمن يوسف([20]). فلو افترضنا أن ذكر فرعون أو الملك سيّان فالمنتظر ممن يقول إنه قرآني يغرف من العلم اللّدُني أن يجاري القرآن الكريم في استعمالاته، ولكن المشكلة تكمن فيما لو كان استعمال فرعون خطأ تاريخيا وقعت فيه التوراة المحرفة وجاراها فيه ميرزا غلام أحمد لغرفه من التوراة بدل القرآن. فما يذكره المؤرخون هو أن يوسف دخل مصر في زمن الهكسوس العرب الذين حكموا مصر، وأن الهكسوس لم يتسمَّوا بالفراعنة وإنما بالملوك احتراما لتقاليد الحكم السابقة لذلك عدّهم علماء التاريخ القديم وعلماء الآثار حلقة انقطاع في سلسلة الأسر الفرعونية الحاكمة([21]). وعليه فإن القرآن الكريم لم يفوّت هذه النقطة الإعجازية ليثبت أنه من الله عكس التوراة، وعكس كلام ميرزا غلام أحمد الذي خالف القرآن ووافق التوراة المحرفة.([22]) وكأني بالله تعالى لا يزال يكشف لمن كان له قلب أن ميرزا مجرد مدع لما ليس له. «وذلك من إعجازات القرآن أن محرف آياته لا يستطيع أن يحرف ويبدل ترتيبه المحكم المرصع الأبلغ، فينكشف كذبه على النساء والصبيان فضلا عن العلماء الراسخين، فسبحان من أنزل القرآن بإعجاز مبين»([23]) ثالثا: ميرزا غلام والتمكن في العربية:يحرص ميرزا وأتباعه على أن يصوّروا لنا سيرته مع العربية من مرحلتين: مرحلة الضعف الكبير، ومرحلة الإحاطة الإعجازية. - أما المرحلة الأولى فيصفها مصطفى ثابت بقوله: «إنه لم يتعلَّم في المدارس أو المعاهد، ولم يتلق علوما في الجامعات، وإنما استحضر له والده بعض المعلمين الذين كانت قدراتهم محدودة، ومواهبهم مغمورة، وعلومهم محصورة، وفطنتهم مطمورة.»([24])«فلم يكن له في مجال الأدب ريادة، ولا كان له في مضمار البيان سيادة. نعم إنه درس في حداثة سنه من اللغة العربية وقواعدها ما يمكّنه من قراءة القرآن، ولكنه لم يتبحّر في علومها، ولا انغمس في بحورها، ولا خطا بقدميه في مسالكها ودروبها. ولم تكن العربية هي لغته التي يتحدّث بها، ولا لسانه الذي ينطق به. ولم يسافر إلى أي بلد عربي، ولم ينزل في منازل العرب وساحاتهم، ولا أقام بين العرب أو البدو أو جاور خيامهم ومساكنهم»([25]). وهو ادعاء مخالف تماما لما سبق من المؤلف نفسه قوله من أن قراءة ميرزا للقرآن كانت معمقة، وأنه كان يمضي جل وقته في تدبر القرآن ومدارسة كتب التفسير والحديث. ونحن نعلم أنه لا يكون ذلك إلا من جيد في اللغة العربية، وإلا كان تعمّقه دعوى كاذبة. - أما المرحلة الثانية فقد حدثت بين عشية وضحاها، حيث كان هو مصداق الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة» وذلك أن العلماء الذين كانوا يكذّبونه على رؤوس الأشهاد، كانوا يعيبون عليه جهله باللغة العربية فأحزنه ذلك وتضرّع إلى الله تعالى سائلا إياه أن يعلمه العربية فعلّمه في ليلة واحدة أربعين ألفا من اللغات العربية. يقول ميرزا غلام أحمد ذاكرا ذلك: «وإن كمالي في اللسان العربي، مع قلة جهدي وقصور طلبي، آية واضحة من ربي، ليظهر على الناس علمي وأدبي... وإني مع ذلك عُلِّمت أربعين ألفا من اللغات العربية([26])، وأعطيت بسطة كاملة في العلوم الأدبية...وهذا فضل ربي أنه جعلني أبرع مِن بني الفرات، وجعلني أعذب بيانا من الماء الفرات. وجعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين...» ([27]). وعِلمه هذا باللغة العربية من أدلة نبوته بشهادة الإمام الشافعي –بزعمه- فهو يقول : «والحق أن لسان العرب- الذي هو المفتاح الحقيقي للصرف والنحو- هو محيط لا شاطئ له، ويصدُق عليه تماما ما قاله الإمام الشافعي رحمة الله تعالى عليه في مقولته الشهيرة: (لا يعلمه إلا نبي)..أي من المستحيل لأي إنسان أن يحيط بتلك اللغة على شتى لهجاتها وأساليبها بشكل كامل إلا نبي. إذن فهذه المقولة أيضا تؤكد أنه ليس بوسع كل من هبّ ودبّ أن يمتلك ناصية هذه اللغة من كافة النواحي، بل الإحاطة الكاملة بها هي من معجزات الأنبياء عليهم السلام».([28]) والحاصل من هذه الادعاءات أنه ذو ملكة كاملة في اللغة، لا يجارى فيها، حتى أن تعريضه أدل من تصريح غيره([29])، وأنها آية واضحة من الله لإظهار صدقه، أي أن كل من قرأها أدرك مدى مُكنته اللغوية الباهرة كما كان من الكفار مع القرآن الكريم. والمنهج العلمي يقتضي منا أن لا نكذّبه في ادعاءاته ولا نصدقه، وإنما نعمل عقولنا في كلامه فإن كان صدقا تبنيناه، وإن كان باطلا رددناه. وليس أسعد من إنسان ليست بينه وبين الحقائق عداوة. والتحقق من هذه الادعاءات يكون بالنظر في نتاجه الأدبي ومدى تصديقه لادعاءاته. وإمامنا في ذلك ميرزا غلام أحمد نفسه إذ يقول: «فإن المشاهدات لا تبطل بالمنقولات، والبديهيات لا تزيف بالنظريات»([30]) أي أنه إنْ تناقض النقل مع ما شاهدناه بأعيننا ووقفنا عليه بأنفسنا، وأدركناه بعقولنا قدّمنا المشاهد ورددنا المنقول لأن فيه احتمال الكذب والخطأ. كما أن المسائل البديهية التي لا تحتاج إلى دليل لا يمكن أن نردّها بمسائل تحتاج إلى دليل. وهنا نقول: إن ما يقوله ميرزا وما ينقل من أنه تعلّم اللغة العربية في ليلة وأنه بلغ الدرجة القصوى مجرّد نقل ورواية لم نعاينه، وبالتالي إن وجدناه مناقضا لنتاجه الأدبي لم نصدق تلك الرواية. إذ لابد من التطابق بين دعواه ومستواه الأدبي. العمل لا الأقوال مرآة الفرد * والأثر هو مقياس رتبة الرجال([31]) قيمة نتاج ميرزا الأدبية:سبق وأن ادعيت أن الإدمان على قراءة كتب ميرزا غلام أحمد تصيب الإنسان بخلل في الذوق الأدبي لكثرة ما فيها من التكلف والسجع، بل إن القارئ إن كانت له قراءة متواضعة لكتب الأدب، وتذوق للعربية في بداياته يحس بالفرق البين، والبون الشاسع بين أدب ميرزا غلام والأدباء المعروفين من أمثال المنفلوطي والرافعي وسيد قطب، وجرجي زيدان... الخ. ولقائل أن يقول إن في حكمك شططا، وإن في فهمك خللا، فلست بالحكم المرضي، ولا قولك في الأدب بالقول الفصل. وإن مما يصدق عليك قولُ الشاعر: مَا أَنْتَ بِالحَكَمِ التُرْضَى حُكُومَتُهُ * وَلاَ الأَصِيلِ وَلاَ ذِي الرَّأْيِ وَالجَدَلِ([32]) أقول: إن كان ذلك صحيحا فلننظر موقف الأدباء من نتاجه، ولنترصد مكانته التي أنزلوه إياها، ولنستشهد بمن لا ينكر أحد فضلهم في الأدب، ممن لا شك في جودة قريحتهم الأدبية. بعد أن لاقى ميرزا غلام أحمد من علماء الهند ومشايخها التكذيب والرّد، وبعد أن أعيته مناظراته معهم ادعى أن الله تعالى ألهمه التوجه لعلماء العرب والفرس فقال في خطبته الإلهامية: «فعند ذلك ألقي في قلبي من الحضرة، أن آوي إليكم لطلب النصرة، لتكونوا أنصاري كأهل المدينة...»([33]) ولازِمُ هذا الادعاء أن يلقى من الذين ألهمه الله أن يأوي إليهم النصرة كما وجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الأنصار، وإلا كانت الإشارة من الله خطأ- وحاشاه- إذ لا يعقل أن يشير الله عليه بأمر ثم لا يجد فيه النتيجة التي كانت منتظره. نعم، قد يجد الصدَّ من قوم إذا لجأ إليهم النبي دون أمر من الله كما كان من أهل الطائف مع النبي، فهو - صلى الله عليه وآله وسلم- قصدهم دون أن يأتيه الإذن الإلهي، فلم يجد منهم إلا الإيذاء، ولكن لما أذن الله له بالهجرة والإيواء إلى أهل المدينة وجد منهم من القبول ما لم يجده من عشيرته الأقربين، وتلك من بركات الإشارة الإلهية، ولكن هل كان الأمر كذلك مع ميرزا بعد أن ألقت الحضرة الإلهية في قلبه ذلك؟ ألَّف ميرزا غلام أحمد كتابا أسماه( إعجاز المسيح) ادعى أنه وحي من الله تعالى، وتحدى الهنود أن يأتوا بمثله، ثم جعل يرسله إلى أدباء العرب وعلمائهم علّهم يقرضونه ويثنون عليه، فيظفر منهم بما يتقوَّى به على مخالفيه في الهند. ولكنه لم يظفر إلا بما يثبت عجزه الأدبي، مما اضطر أتباعه إلى الكذب والتلفيق للتخفيف من ردّة فعل الأدباء. والذي بين يدّي من المعلومات يفيد أنه أرسل الكتاب إلى بعض علماء مصر ومحرري الجرائد فيها، مثل الشيخ محمد رشيد رضا محرر مجلة المنار، وجرجي زيدان محرر مجلة الهلال، ومحرر مجلة المناظر([34]) الذي لم أقف عليه. يدّعي ناشر كتاب الهدى والتبصرة لميرزا غلام أن محررَي الهلال والمناظر أثنيا على الكتاب «وأشادا بفصاحته وبلاغته أيما إشادة»([35]) ولو أنه ظفر حقا بإشادة الأديب الألمعي محرر مجلة الهلال: جرجي زيدان لكانت شهادة لا ترد، ولكان الخلل في تذوقي للأدب لافي نتاج ميرزا الأدبي. ولكن الحقيقة خلاف ذلك، والعجب من ناشر لكتاب يدعي أنه لنبيه يفتتح الصفحة الأولى منه بالكذب وتزوير الحقائق. وها أنا ذا أنقل ما قاله جرجي زيدان في الكتاب بحرفه ليكون الحُكم الفصل لعقل القارئ. يقول جرجي: « جاءنا ببريد الهند كتاب مطبوع في قاديان بالعربية الفصحى وبين سطوره ترجمة بالفارسية. فتصفحناه فإذا هو لرجل من أهل الهند يزعم أن الله أرسله لإصلاح ما فسد من الأرض ولتفسير الكتب المنزلة تفسيرا صحيحا. أو هو يزعم أنه المسيح المنتظر. ومن أقواله: (أراد الله لنا في هذا الزمان أن نكسر عصا الباطل بالبرهان لا بالسنان فأرسلني بالآيات لا بالمرهفات وجعل قلمي كلمي منبع المعارف والنكات وأعطاني سيفا وسنانا. وأقام مقامهما برهانا وبيانا الخ). وفي صدر الكتاب حديث قيامه ودعوته وما لاقى من المقاومين وأشدّهم وطأة عليه رجل اسمه مهر علي من علماء الهند فجعل الفصل في حقيقة دعواه أن يفسر القرآن تفسيرا يعجز عنه أهل الأرض في مدة لا تتجاوز سبعين يوما ففسر الفاتحة في مئة وخمسين صفحة وسماها (إعجاز المسيح في التفسير الصحيح) وهو الكتاب الذي نحن بصدده. ويؤخذ من تلاوته على مجمله أنه تقليد للقرآن في نسقه وعبارته- كقوله: (وإن اجتمع آباؤهم وأبناؤهم واكفاؤهم وعلماؤهم وحكماؤهم وفقهاؤهم على أن يأتوا بمثل هذا التفسير في هذا المدى الحقير لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) وسنرى ما يكون من أمر هذا المهدي أو المسيح أو النبي كما يسمي نفسه ولا نخاله إلا ذاهبا في ثنيات الزمان كما ذهب غيره لأننا في عصر غير عصر النبوات.»([36]) فأين مصداق قول الناشر: «وأشادا بفصاحته وبلاغته أيما إشادة»([37]) لعل الناشر رآها في خاتمة المقال أو في قوله أول الكلام: «مطبوع في قاديان بالعربية الفصحى». هذا عن محرر الهلال أما محرر المنار فلكونه شيخا مفسرا، وعالم دين لم يترك مصير ميرزا للزمان، وإنما سعى إلى تعجيل إطفاء فتنته الإيمانية قبل استفحالها بنشر مقالات عديدة في المنار تكشف زيف دعاوي ميرزا، فكان لها تأثير كبير في الهند إذ كانت تترجم وتنشر في الجرائد. ([38]) ويبدو أن ميرزا غلام أحمد كان يمنّي نفسه بأتباع من أمثال رشيد رضا يكونون سندا له في دعواه إذ قال مخاطبا إياه: «وكنت رجوت أن أجد عندك نصرتي، فقمت لتندّد بهواني وذلّتي، وتوقعتُ أن يصلني منك تكبير التصديق والتقديس، فأسمعتني أصوات النواقيس، وظننت أن أرضك للتحصّن أحسن المراكز، فجرّحتني كاللاكز([39]) والواكز([40])...وكنت أتوقع أن يتسرّى بمؤاخاتك همّي، ويرفضَّ بجندك كتيبة غمّي، فالأسف كل الأسف أن الفراسة أخطأت، والرويّة تحققت...»([41]) ونحن نلاحظ هنا أن العلم الإلهامي الذي ألقي في قلبه من الحضرة الإلهية صار مجرّد فراسة فقط. تلك التي أخفقت وجعلت رشيد رضا يقول متهكما: :«أي فلم يصدق عليه حديث: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) لأنه ينظر بظلمة غروره»([42]). ويبدو أن ميرزا غلام لم يكتف بتأليف كتاب (النور والتبصرة لمن يرى) الذي كان ردّا على رشيد رضا، وإنما كان يرسل قصائد متعددة لصاحب المنار يستميله إلى دعوته، تلك القصائد التي لم تزده عن دعوته إلى بعدا. ولنورد نموذجا من تعليقاته على إحدى قصائده. يقول في مقالة: (إعجاز أحمدي أو سخافات جديدة لمسيح الهند.): «ففي الشهر الماضي أرسل إلينا قصيدة من المخزيات، ولكنه نظمها في سلك ما يدّعيه من المعجزات...وقد أخّرنا الكتابة في هذه السخافة الجديدة لأنا كنا عازمين على قراءتها كلها وإظهار ما فيها من الأغلاط اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية والتنبيه على ما فيها من السرقات الشعرية، التي سلخها من كلام فحول الرجال ومسخها ولا غرو أن يظهر المسخ على يد المسيخ الدجال، ثم بدا لنا أن هذه الانتقادات ليست ضرورية، عند العارفين باللغة العربية، فإن عرض القصيدة عليهم يكفي لمعرفة دركها في السخافة، أما المخدوعون به من الأعجمين في الهند فلا يفهمون انتقادنا إذا هو وصل إليهم ...»([43]). ونختم هذا المقام بالوقوف عند صفة حميدة في رشيد رضا هي إنصافه للمخالفين له ولو كانوا من أمثال ميرزا غلام أحمد القادياني، إذا لما وصل إليه كتاب (حمامة البشرى) ووجد فيه بعض الحق أفرد له مساحة في مجلته وأورد كلام ميرزا غلام دون تعليق منه. معللا ذلك بأن في بعض كلامه حقا، وبأن بعض ما نقله عن العلماء الطاعنين به غير معروف عند علماء المسلمين[44]. وهذا من سعة علمه وأفقه، ولو كان من بعض المتعالمين لحجب الكتاب كلية ولما أورد منه حرفا خوفا على العامة من الفتنة كما يدعي من نصبوا أنفسهم حرسا على عقول الناس. خلاصة ما سبق:مما سبق ذكره يتضح أن مسيرة ميرزا غلام أحمد في أحسن أحوالهما مسيرة مجتهد[45] عادي، وأن نتاجه الأدبي لم يلق رواجا أو قبولا من الأدباء المعروفين، وأن ادعاءاته كلها لا تقف أمام الواقع والحقيقة مما اضطر ناشر كتابه للكذب وتزييف الحقائق. فهل كانت مسيرة بديع الزمان النورسي كذلك؟
[1] ) مقدمة جلال الدين شمس لكتاب التبليغ لميرزا غلام. مصطفى ثابت، السيرة المطهرة،45.
[2] ) مصطفى ثابت، م.س، 46-47.
[3] ) مصطفى ثابت، م.س، 48.
[4] ) مصطفى ثابت، م.س، 48.
[5] ) مصطفى ثابت، م.س، 46.
[6] ) أجوبة المحقق الخليلي، 33.
[7] ) مصطفى ثابت، م.س، 503.
[8] ) مصطفى ثابت، م.س، 503. كان قد وعد أن يكون 50 جزءا لكنه قصره في خمسة أجزاء وقال في الجزء الأخير الذي ألفه سنة 1905 و بعد 21سنة من تأليف الجزء الرابع: إنه وإن كان وعد أن يكون الكتاب في خمسين جزءا إلا أنه عدل عن ذلك إلى خمسة أجزاء وليس بين ما وعد وما تحقق إلا صفر فيكون إذن وفى بعهده.(براهين أحمدية، 5/7 نقلا من الندوي، القادياني والقاديانية دراسة تحليلية، ص246) وهذا يوقفنا عند نموذج من نماذج التحايل والتلاعب بالكلام، ثم بالنصوص الشرعية.
[9] ) أبو الحسن الندوي، القادياني والقاديانية دراسة وتحليل، ص256-257. مصطفى ثابت، م.س، 503.
[10] ) أبو الحسن الندوي، القادياني والقاديانية دراسة وتحليل، ص 265.
[11] ) ابن حجر العسقلاني، لسان الميزان، 5/54.
[12] ) الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان، سير أعلام النبلاء، 17 /244.
[13] ) هذا إذا غضضنا الطرف عن قصائده في مدح النبي والتي لم يكتب لها معشار ما كتب لقصيدة البوصيري.
[14] ) التبليغ، ص 26.
[15] ) نور الحق، ص174.
[16] ) نور الحق، ص191.
[17] ) الخطبة 17.
[18] ) حمامة 5-6.
[19] ) التبليغ، ص52.
[20] ) سفر التكوين، إصحاح 40.
[21] ) عبد الحليم عويس، الإعجاز التاريخي والأدبي والتربوي في سورة يوسف، المؤتمر العالمي الثامن للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. ص 20.
[22] ) انظر للتفصيل أكثر بحث الدكتور عبد الحليم عويس الهيئة العالمية للإعجاز العلمي.
[23] ) حمامة 31.
[24] ) السيرة المطهرة، 206
[25] ) السيرة المطهرة 225.
[26] ) أي أربعين ألفا من جذور اللغة العربية ومصادرها كما يدّعي ثابت. السيرة المطهرة 226.
[27] ) السيرة المطهرة 226-227.
[28] ) نزول المسيح، نقلا من التبليغ صفحة: ن،س. مفاد قوله: إن الشافعي يقول الإحاطة باللغة لا يكون إلا من نبي، وأنا محيط بها، إذن أنا نبي. وهي شبهة لا قيمة لها ولا تنطلي إلا على المغفلين، وذلك أن إحاطته باللغة كلّها مجرّد ادعاء يحتاج إلى برهان، والادعاء لا يكون دليلا. فلابد وأن يثبت أنه محيط بها كلها. والسؤال البسيط: هل أدبه أرقى من أدب الشافعي؟؟؟
[29] ) حمامة البشرى. صفحة 6.
[30] ) نور الحق، ص151.
[31] ) بيت للشاعر (ضيا باشا). ورد في كليات رسائل النور. السيرة الذاتية لبديع الزمان النورسي. ص 45.
[32] ) البيت للفرزدق، يستشهد به مثالا لوصل الألف واللام بالفعل. ينظر شرح ابن عقيل على الألفية، 1/157
[33] ) الخطبة الإلهامية، ص3.
[34] ) الهدي والتبصرة، صفحة: أ.
[35] ) الهدي والتبصرة، صفحة: أ.
[36] ) جرجي زيدان، مجلة الهلال، السنة التاسعة، من أكتوبر سنة 1900 إلى يوليو سنة1901. ص504.
[37] ) الهدي والتبصر، صفحة: أ.
[38] ) مجلة المنار 5/318
[39] ) «اللّكز الوجء (الضرب) في الصدر بجُمع اليد وفي الحنك» (العين للخليل الفراهيدي كلمة: لكز).
[40] ) «الوكز: الطعن، يقال: وكزه بجُمع كفه» (العين للخليل الفراهيدي كلمة:وكز).
[41] ) الهدي والتبصر، ص:6.
[42] ) مجلة المنار 5/319.
[43] ) مجلة المنار 5/ 789.
[44] ) مجلة المنار ، 3/701.
[45] ) لا بالمعنى الشرعي بل اللغوي.
|